الله وتدبرها ، لجأوا إلى الله بالتضرع والدعاء مع تخير الأوقات المناسبة للإجابة، وسنذكر بعضاً من سيرهم في ذلك :
يذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في سياق هجرة عمر بن الخطاب مع عياش بن ربيعة وهشام بن العاص - رضي الله عنهم - (ولقد حبس الكفار هشاماً عن الهجرة، واستطاع أبوجهل أن يرد عياشاً إلى مكة بعد حيلة ماكرة وخطة غادرة ... وقد كان شائعاً بين المسلمين أن الله لا يقبل ممن افتتن توبة ، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم حتى قدم رسول الله المدينة ، وأنزل الله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (53ـ55) سورة الزمر. قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص .قال هشام : فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها وأصوب، ولا أفهمها؛ حتى قلت: اللهم فهمنيها؛ فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ، ويقال فينا ، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله بالمدينة ) ( ).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول في دعائه دائماً: ( اللهم يا معلم آدم وإبراهيم علمني ، ويا مفهم سليمان فهمني ) فيجد الفتح في ذلك( ). فالزم - أخي الحبيب - الدعاء دائماً ، وسل الله من فضله أن يرزقك فهم كتابه ، وتدبر معانيه، وقل : ( اللهم إني عبدك ابن عبدك ، ابن أمتك ، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدلٌ فيَّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي )( ).
ثالثاً : الجهل باللغة العربية
إن الله - تعالى - أنزل القرآن الكريم بلغة العرب قال تعالى :
{وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (103) سورة النحل، وقال تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (192ـ195) سورة الشعراء.
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - :
( وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات ، وأبينها ، وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات )( ) .
وبَيَّنَ اللهُ - تعالى - الحكمة من إنزاله بلغة العرب فقال : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف. {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (28) سورة الزمر. {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) سورة فصلت.
وإذا كان العبد لا يعرف لغة العرب ولا أساليب كلامهم ؛ فأنى له أن يفهم مقصود ربه - سبحانه وتعالى - أو يتدبر آيات القرآن الكريم ) ( ).
ذكر الإمام القرطبي - رحمه الله -:
( أن أعرابياً قدم المدينة فقال : مَنْ يقرئني مما أُنْزِلَ على محمد ؟ فأقرأه رجل سورة براءة حتى أتى على الآية الكريمة :{وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } (3) سورة التوبة. فقرأها عليه بالجر {وَرَسُولِهِ} - أي بالكسرة تحت اللام - ، فقال الأعرابي : وأنا أيضاً أبرأ من رسوله ، فاستعظم الناس الأمر. وبلغ ذلك عمر فدعاه، فقال: يا أعرابي! أتبرأ من رسول الله ؟! فقال: يا أمير المؤمنين ! قدمت المدينة فأقرأني رجل سورة براءة ، فقلت : إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه . فقال عمر : ما هكذا الآية يا أعرابي ! . قال : فكيف يا أمير المؤمنين ؟ فقرأها عمر عليه بالضم {وَرَسُولُهُ }. فقال الأعرابي : وأنا أبرأ مما برئ اللهُ ورسولُه منه. فأمر عمر ألا يُقْرِئُ الناس إلا عالمٌ بلغة العرب )( ) .
كيف يفهم المسلم كتاب ربه ، ويتدبره وهو لا يعرف قواعد اللغة العربية ، ولا يميز بين الاسم والفعل والحرف، ولا الفاعل من المفعول ، وغيرها مما يتوقف عليه فهم الخطاب، فمثلاً كيف يفهم قوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (124) سورة البقرة. أو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28) سورة فاطر
رابعاً : عدم التخلي عن موانع الفهم
( وموانع الفهم كثيرة منها :
1- أن يكون الهم منصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها ، وعدم التفكر في معاني كلام الله – عز وجل - ، بحيث يحرص كل الحرص على ترديد الحرف وتكراره وذلك لأن الشيطان يخيل إليه أنه لم يخرج الحرف من مخرجه ، ولم يعطه حقه في النطق.
2- أن يكون المسلم مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه ، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة ، فهذا إن سمع تفسيراً للآية غير ما سمع ، إذا به يرده من غير تردد: مثل مَنْ عرف أن تفسير قولـه تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طـه. أن معنى: {اسْتَوَى} استولى . واستقر ذلك في نفسه حتى صار عقيدة راسخة له ، فإذا به لو عرف بعد ذلك أن معنى: {اسْتَوَى} ليس استولى وأنه خلاف الحق والصواب الذي عليه جمهور السلف الصالح ، وأن معناها الحقيقي: استقر وعلا وارتفع، فإذ به يرد هذا المعنى الحق ، ولا يقبله ، وأحياناً يعادي ويبغض من يدعو إليه .
3- أن يكون المسلم مُصِّراً على ذنب، أو متصفاً بكبر، أو مبتلى - في الجملة - بهوى في الدنيا، فإن ذلك يسبب ظلمة القلب وصدئه، وقد شرط الله الإنابة في الفهم والتذكير، فقال تعالى : {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} (
سورة ق. وقال عز وجل: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} (13) سورة غافر. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (19) سورة الرعد. فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب؛ ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب)( ).
خامساً : هجر كتب التفسير
قال الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله - : (إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله - تفسيره - كيف يلتذ بقراءته) ( ).
كيف يتدبر القرآن من هجر كتب تفسير القرآن ولم يطالعها ويدارسها ، ولم يعرف أسباب النزول … وغيرها من علوم القرآن، وغالباً لا يسلم صاحب هذا المنهج من الخطأ في فهم الآيات ، والاستدلال بها ، والخطأ في العمل والتطبيق .
عن أسلم أبي عمران التجيبي قال: (كنا بمدينة الروم ، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فُضَالة بن عُبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم ، حتى دخل عليهم فصاح الناس، وقالوا : سبحان الله ! يلقي بيديه إلى التهلكة ! فقام أبوأيوب الأنصاري فقال: (يا أيها الناس إنكم لتأولون هذه الآية هذا التأويل؛ وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله – تبارك وتعالى – على نبيه يرد علينا ما قلنا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (195) سورة البقرة. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال، وإصلاحها، وتَرْكنا الغزو، فما زال أبوأيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دُفِنَ بأرض الروم )( ) .
فتأمل - أخي الحبيب - كيف تأول بعض التابعين الآية على غير مراد الله، وهم من أفضل القرون، وأقرب إلى عصر التنزيل، فكيف بنا في هذا الزمان وقد صارت الألسن أقرب إلى لسان العجم منها إلى لسان العرب ؛ فما أحوجنا - نحن المسلمين - إلى دراسة كتب التفسير ليحصل لنا فهم كلام الله - عز وجل - وبخاصة ما يسمى (التفسير بالمأثور) ومن أشهر هذه الكتب: تفسير الإمام الطبري، وتفسير الإمام البغوي، وتفسير الإمام ابن كثير ، وتفسير الدر المنثور للسيوطي، وتفسير الإمام الشوكاني ...
وإليك نماذج من كتاب الله - جل وعلا - يوهم ظاهرها التعارض، وبالرجوع إلى كتب التفسير يزول هذا الإشكال، ويُدْفَعُ هذا الإيهام والتعارض وصدق الله إذ يقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء ( ).
النموذج الأول : الهداية هدايتان :
قال الله - تعالى - عن وصف رسوله :{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (52) سورة الشورى. وقال في موضع آخر : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (56) سورة القصص . في الآية الأولى أثبت الله لرسوله الهداية ، وفي الآية الثانية نفى عنه ذلك ، فكيف نوفق بينهما ؟
بالرجوع إلى كتب التفسير يتبين لنا أن الهداية هدايتان :
أ- هداية الدلالة والإرشاد : وهذه هي المثبتة في حق النبي فهو يهدي : أي يدل ويرشد ويبين الصراط المستقيم ، والطرق الموصلة إليه ، وكذلك القرآن الكريم ، فقد قال - تعالى - :{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء.
ب- هداية التوفيق والسداد : وهذه هي المنفية عن النبي وعن غيره فهي خاصة بالله – عز وجل – فهو وحده الذي يوفق ويسدد من يستحق إلى الهداية والصلاح .
النموذج الثاني : أين الله ؟
قال تعالى : {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } (16) سورة الملك.{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (84) سورة الزخرف. ويقول {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (3) سورة الأنعام. في الآية الأولى ذكر الله عن نفسه أنه في السماء ، وفي الآيتين الثانية والثالثة ربما يفهم البعض منهما أن الله في السماء والأرض ، ومن ثم في كل مكان !
وبالرجوع إلى كتب التفسير يتضح أن الآية الأولى: تثبت عقيدة أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين والأئمة والصالحين أن الله - تعالى - في السماء كما أخبر مستوٍ على عرشه قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طـه ( ) .
وأما الآية الثانية: فلا علاقة لها بموضوع المكان ، وإنما تتحدث عن العبودية لله - سبحانه وتعالى - ، فإن لفظ {إِلَهٌ} تعني : المعبود بحق ، فمعنى الآية إذن : أن الله معبود من في السماء كما أنه معبود مَنْ في الأرض . وأما الآية الثالثة : تتناول قضية العلم فمعناها : أن الله يعلم ما في السموات والأرض .
ثانياً : كيف نتدبر القرآن الكريم ؟
يتم ذلك من خلال طريقين : العلمي ، والعملي .
أولاً : الطريق العلمي: وذلك من خلال أن يعرف المسلم قيمة تدبر القرآن الكريم، وعِظَم مكانته ، وكثرة فوائده، وأن تدبر القرآن سبيل إلى العلم النافع، والعمل الصالح، وطريق إلى حياة القلوب.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - :
فتدبر القرآن إن رمت الهدى
فالعلم تحت تدبر القرآن( )
قال إبراهيم الخواص :
( دواء القلب خمسة أشياء : قراءة القرآن بالتدبر ، خلاء البطن ، قيام الليل، التضرع عند السحر ، مجالسة الصالحين )( ) .
إن المحروم مَنْ حُرِمَ تدبر القرآن ، وأُغْلِقَ عليه فهم آياته ، ومعرفة معانيه ، قال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (24) سورة محمد . قال علي بن أبي طالب : ( لا خير في عبادة لا علم فيها ، ولا خير في علم لا فقه فيه ، ولا خير في قراءة لا تدبر معها ).
تفكر عمرو بن مرة في مَثَل من أمثال القرآن فلم يتبين له معناه، فجعل يبكي، فسئل ما يبكيك؟ فقال: (إن الله - عز وجل - يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } (43) سورة العنكبوت. وأنا لم أعقل المثل فلست بعالم فأبكي على ضياع العلم مني )( ).
ثانياً : الطريق العملي : وذلك باتباع الخطوات الآتية :
1- الالتزام بآداب التلاوة وبخاصة الإخلاص والطهارة والسواك والاستعاذة واختيار المكان المناسب ... وقد سبق ذكرها بشيء من التفصيل في هجر التلاوة .
2- تفريغ القلب من الشواغل ، والتخلي عن موانع الفهم وبخاصة الذنوب والمعاصي ، والغفلة والكبر .. ، والعمل على صلاح القلوب وطهارتها عن طريق الذكر والتسبيح والاستغفار ، والإنابة والتوبة ، والتخلص من فضول الطعام والمنام والنظر والمخالطة .
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - :
( فإذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته ، وألقِ سمعك ، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه سبحانه لك على لسان رسوله ، وذلك أن تمام التأثير ، لما كان موقوفاً على مُؤَثِّرٍ مُقْتَضٍ، ومَحْلٍ قَابل، وشرط لحصول الأثر ، وانتفاء المانع الذي يمنع منه : تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه ، وأدله على المراد .
فقولـه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق. وهذا هو المؤثر. وقولـه: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } فهذا هو المحل القابل، والمراد به : القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال - تعالى - : {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (69ـ70) سورة يــس. أي: حَيّ القلب .
وقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي : وَجَّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يُقَال، وهذا هو شرط التأثير بالكلام . وقوله: {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: شاهد القلب حاضر غير غائب .
قال ابن قتيبة : استمع لكتاب الله وأنت شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساه. وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير وهو: سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له ، والنظر فيه وتأمله.
فإذا حصل المؤثر : وهو القرآن .
والمحل القابل : وهو القلب الحي .
ووجد الشرط : وهو الإصغاء .
وانتفى المانع : وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب ، وانصرافه إلى شيء آخر , حصل الأثر : وهو الانتفاع بالقرآن والتذكر )( ) .
3- ترتيل القرآن ، قال تعالى :{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) سورة المزمل. إن ترتيل القرآن يساعد على تدبر الآيات ، وفهم معانيها.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ( لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن كله) .
وعن مجاهد أنه سُئٍلَ عن رجلَين : قرأ أحدهما البقرة وآل عمران ، والآخر قرأ البقرة وحدها ، وزمنهما وركوعهما وسجودهما وجلوسهما سواء ، قال : الذي قرأ البقرة وحدها أفضل )( ).
وأكثر العلماء يستحبون الترتيل في القراءة ليتدبره القارئ ويفهم معانيه.
عن حفصة - رضي الله عنها - : (كان الرسول يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول منها) ( ).
4- ترديد الآية حتى يتحصل على التدبر
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قام النبي بآية من القرآن ليلة ( ).
وعن أبي ذر قال : قام النبي بآية يرددها حتى أصبح ، الآية{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (118) سورة المائدة ( ) .
وقام قتادة بن النعمان الليل لا يقرأ إلا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}يرددها لا يزيد عليها .( )
وعن تميم الداري أنه كرر هذه الآية حتى أصبح {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } (21) سورة الجاثية. ( )
5- التفاعل مع الآيات ، وإظهار الحزن والتأثر ، أثناء القراءة .
قال رسول الله : "إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله " ( ) .
ولقد ورد في سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف ( ) " اقرءوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا " فإن لم يتأثر الإنسان بالقراءة، وتبكي عينه ، وتقشعر جوارحه ، فعليه أن يتظاهر بالحزن والبكاء على الحرمان من ذلك ، فإنه من أعظم المصائب .
عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنهما – قال: (صليت مع النبي ذات ليلة، فافتتح ( البقرة ) فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت : يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها ، ثم افتتح ( النساء ) فقرأها، ثم افتتح ( آل عمران) فقرأها، يقرأ مسترسلاً، وإذا مَرَّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مَرَّ بآية سؤال سأل، وإذا مَرَّ بتعوذ تعوذ)( ).
قال الإمام النووي - رحمه الله - :
( يستحب هذا السؤال والاستعانة ، والتسبيح لكل قارئ سواء كان في الصلاة أو خارج منها... ) ( ) .
الفصل الثالث
المقامات العليا في التدبر
وفيه ثلاثة مباحث:
أولاً : التدبر في القرآن الكريم .
ثانياً : تدبر الرسول .
ثالثاً : تدبر القرآن في سير السلف الصالح .