: نتساءل عن دور هذه المصادر في التجريم والعقاب .
من حيث المبدأ : لا يجوز اعتبار مصادر القانون ( الشريعة الإسلامية و العرف ) مصدرا للتجريم و العقاب و السبب في ذلك يعود إلى أن العودة إلى هذه المصادر يهدم مبدأ الشرعية و يؤدي إلى خلق جرائم و عقوبات لم ينص عليه القانون .
و لكن يرد على هذه القاعدة استثناءات ثلاثة :
الاستثناء الأول : عندما يعود القاضي إلى قانون غير جزائي لحل قضية جزائية , فله أن يعود إلى مصادر هذا القانون .مثل جريمة الزنا يعود القاضي إلى قانون الأحوال الشخصية للتثبت من صحة عقد الزواج وله أن يعود إلى العرف و الشريعة الاسلامية إذا احتاج لذلك.
وكذلك في جريمة السرقة يعود القاضي إلى القانون المدني في مسألة تحديد ملكية الشيء المسروق وله أن يعود إلى مصادر القانون المدني .
الاستثناء الثاني : إذا كان القاضي أمام مسألة لا سبيل لحلها بغير الرجوع إلى العرف .
مثل التعرض للآداب و الأخلاق العامة : حيث تحديد ركن هذه الجريمة لا يتم بغير الرجوع إلى العرف .وكذلك بعض العبارات الغامضة التي وردت في قانون العقوبات بحيث يتعذر معرفة معناها بغير الرجوع إلى العرف ومنها عبارة ( الفعل المنافي للحشمة ) الواردة في المواد 494و496 وعبارتي ( العمل المنافي للحياء ) و ( الكلام المنافي للحشمة) الواردة في المادة 506 و غيرها من العبارات الغامضة التي يتعذر معرفة معناها بغير الرجوع إلى العرف .
الاستثناء الثالث : عندما يتدخل العرف ليبرر فعلا جرمه القانون
مثل الظهور بملابس الاستحمام على شاطىء البحر أو في حوض السباحة.
وكذلك ختان الأولاد و الألعاب الرياضية التي يمارسها الصغار و الكبار على النحو الذي يقره القانون . و بذلك نقول بأن العرف يلعب دورا ثانويا و ضيقا قي نطاق التجريم و العقاب و إن كان يلعب دورا أساسيا في حالات الاعفاء من العقاب و لذلك يهدمه أن يكون غير النص التشريعي مصدرا للتجريم و العقاب ولا شأن لهذا المبدأ في الحالات الأخرى .
الفصل الخامس: الواجبات الملقاة على عاتق القاضي والمشرع والسلطة التنفيذية
أولا ً :الواجبات الملقاة على عاتق المشرع :
1)يجب على المشرع عندما يضع النص التشريعي أن يضعه بصورة واضحة ودقيقة لا لبس فيه ولا غموض .
2)ويجب أن يكون النص محدداً أي يحدد الفعل ويحدد العقوبة المقررة لهذا الفعل بشكل واضح ودقيق حتى لا يجد القاضي في الغموض وعدم التحديد منفذاً لتجريم ما هو مباح كما لو حدد المشرع جريمة دون أن يحدد العقوبة أو حدد العقوبة دون أن يبين الفعل المجرم .
مثال حدد القاضي الجريمة دون أن يحدد العقوبة . المادة 26 من قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري ( من شاهد اعتداء على الأمن العام أو على حياة أحد الناس أو على ماله يلزمه أن يعلم بذلك النائب العام المختص ).
فهنا حدد المشرع الجريمة دون أن يحدد العقوبة فالقاضي لا يستطيع أن يبدع عقوبة من عنده و يفرضه من امتنع عن الإخبار ففي هذه الحالات القاضي لا يستطيع تطبيق هذه النصوص إلا بالخروج على مبدأ الشرعية.
3)ويجب أن يصدر هذه النصوص بأثر مباشر أي فوري أي أن حكام هذا النص لا يسري إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها لأن الأصل للقانون الطبيعي هو احترام الحقوق المكتسبة وهذا ما جاء في قانون العقوبات " لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون " .
4)ويجب على المشرع أن يحترم قاعدة عدم رجعية القوانين وعدم الرجعية يعني أن نص التجريم لا يسري إلا على الأفعال المرتكبة بعد لحظة نفاذه وبالتالي فهو لا يسري على الأفعال المرتكبة قبل هذه اللحظة وتستند هذه القاعدة على نصوص صريحة في قانون العقوبات
لا تفرض عقوبة ولا تدبير احترازي أو صلاحي من أجل جرم لم يكن القانون قد نص عليه حين اقترانه " .
وهذه القاعدة هي نتيجة طبيعية لقاعدة قانونية الجرائم و العقوبات لأن تطبيق القانون على الوقائع المرتكبة قبل نفاذه قضاء على هذه القاعدة لأن مبدأ الشرعية يضمن حقوق الأفراد وحرياتهم وبالتالي انعدام الأثر الرجعي يعتبر من الأصول الجوهرية في النظام القانوني التي يجب على المشرع مراعاتها وبالتالي لا يجوز المخالفة لا بصورة صريحة ولا ضمنية ، ولكن يوجد استثناء على هذه القاعدة وهو القانون الأصلح للمتهم حيث جاءت في الفقرة الثانية في المادة السادسة من قانون العقوبات
" ومع ذلك إذا صدر بعد وقوع الفعل وقبل الحكم فيه نهائياً قانون أصلح للمتهم فهو الذي يتبع دون غيره "
ولهذا الاستثناء ما يبرره لأن المشرع عندما يلغي عقوبة أو يقرر عقوبة أخف لأنه وجد في العقوبة السابقة ما لا يتمشى مع العدالة ولا يحقق مصلحة الأفراد ومصلحة المجتمع فيلجأ إلى تخفيفها أو إعفائها لأن المقصود من العقوبة ليس الانتقام وإنما إصلاح المجرم .
5)يجب على المشرع عندما تسن القوانين مراعاة قانونية الجرائم والعقوبات سواء في تعيين العناصر التي تكون هذه الجريمة أو في تعيين العقوبات التي تترتب عليها أو في تحديد القواعد التي تنفذ هذه العقوبات بمقتضاها .
ثانيا ً : الواجبات الملقاة على عاتق القاضي :
إن واجبات القاضي ينحصر في تطبيق القانون و تفسيره و تقيد بمبدأ عدم الرجعية.
تطبيق القانون : يجب على القاضي أن يلتزم بتطبيق القانون كما وضعه السلطة التشريعية و يترتب على ذلك عدة نتائج :
1- لا يجوز للقاضي اعتبار فعل من الأفعال جريمة إلا إذا نص القانون عليه فهو لا يستطيع أن يعتبر الربا جريمة استنادا إلى الشريعة الإسلامية طالما أن المشرع لم ينص عليه .
2 - لا يجوز للقاضي الحكم بعقوبة لم ينص عليه القانون كما هو الحال في المادة 26 من قانون أصول المحاكمات الجزائية
3 - ولا يجوز للقاضي أن يستبدل العقوبة المنصوص عليها في القانون بعقوبة أخرى لم ينص القانون عليها كأن يستبدل عقوبة الغرامة بالحبس والاعتقال بالإشغال الشاقة
تفسير النصوص :فالقاضي حينما يحاكم المدعى عليه في جرم جزائي ويريد تطبيق نص قانوني ليه 4- ثم يجد أن هذا النص غامض فإنه يجتهد في تفسيره ضمن حدود ألفاظه ومعانيه للوصول إلى إرادة المشرع الحقيقية .
5 - عدم رجعية القوانين : يجب على القاضي أن يلتزم بهذه القاعدة بالتالي لا يطبق نص التجريم إلا على الأفعال المرتكبة بعد صدور هذا النص و قاعدة عدم الرجعية هي نتيجة لقاعدة مبدأ الشرعية لأننا إذا طبق النص الجديد على أفعال مرتكبة قبل صدوره نكون قد خرقنا مبدأ شرعية الجرائم و طبقنا القانون الجديد على فترة زمنية لم يكن فيها .
ثالثاً : الواجبات الملقاة على عاتق السلطة التنفيذية :
يجب على السلطة التنفيذية أن لا تلجأ إلى التشريع إلا في الحالات المحددة له وفقاً للدستور لأن اختصاصها في مجال التشريع مقيد واستثنائي ولذلك لا يجوز لها إصدار النظام في غير المجال المحدود لاختصاصها أي لا يجوز للسلطة التنفيذية أن تجرم غير أفعال تدخل في المجال التي تباشر فيه اختصاصها التشريعي المحدود .
هل تدخل التدابير الاحترازية في نطاق مبدأ الشرعية :
على الرغم من أن المشرع يستهدف من التدابير الاحترازية الوقاية الاجتماعية لا الجزاء وهو مجرد إجراء علاجي يستفيد منه المحكوم عليه ، فلا يمكن تجريد التدابير الاحترازية من الإيلام وإن كان غير مقصود ، فبعض التدابير الاحترازية تصل إلى حد سلب الحرية ولذلك يجب على الشارع أن يحدد التدابير ويحدد ماهية كل منها حتى لا يكون وسيلة استغلال بيد القضاة ، ولكن التدابير لا يطبق بالصورة الجامدة التي عرفناها في نصوص التجريم والعقاب ، وذلك لأن المشرع ينص على التدابير الاحترازية دون أن يقرر تدبير محدد لكل جريمة وإنما يترك للقاضي الحرية في أن يختار من بين التدابير التي نص عليها الشارع ما يكون مناسباً للجرم .
ونقول بأن التدابير الاحترازية تدخل في مبدأ الشرعية بحيث لا يستطيع القاضي أن يحكم بغير التدابير المنصوص عليه في القانون
الفصل السادس : نتائج مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
تترتب على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات نتيجتان :
1 - الأولى تتعلق بتحديد مصادر التجريم والعقاب
2 - والثانية تتصل بتفسير النصوص الجزائية .
النتيجة الأولى : هنا نقول يترتب على مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات النتائج التالية :
أولا : لا يسوغ للقاضي اعتبار فعل .جرما إلا إذا نص القانون صراحة على ذلك و معنى هذا ؟أنه لا يجوز للقاضي أن يستند في الإدانة على القواعد الاجتماعية أو القواعد الأخلاقية أو القواعد الدينية .
ويجب عليه أيضا أن يلتزم بجميع عناصر التجريم و شروطه الواردة في النص فلا يستطع أن يهمل عنصرا أو شرطا بحجة أنه قليل الأهمية أو لا أهمية له إطلاقا أو أن عدم الأخذ به يحقق العدالة أو المصلحة العامة أو مصلحة المتضرر .
ثانيا : لا يسوغ للقاضي الحكم بعقوبة لم ينص القانون عليها فمثلا المادة 26 من قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري ( من شاهد الاعتداء على الأمن العام أو على حياة احد الناس أو على ماله يلزمه أن يعلم بذلك النائب العام المختص ) هنا المشرع حدد الجريمة دون أن يحدد العقوبة فالقاضي لا يجوز له أن يبتدع عقوبة من عنده و يفرضه على من يمتنع عن الإخبار طالما المشرع لم ينص على هذه العقوبة .
ثالثا : لا يسوغ للقاضي أن يستبدل بالعقوبة المنصوص عليها في القانون عقوبة أخرى لم ينص عليها القانون للجريمة المعينة.كأن يستبدل الاعتقال بالأشغال الشاقة أو الغرامة بالحبس كما لا يجوز له أن يخفف العقوبة أو يرفعها إلا ضمن الحدود التي نص عليها القانون .
الفصل السابع : تفسير النصــوص الجزائيـــة
أولاً : أنواع التفسير : من حيث المصدر
1 - التفسير التشريعي:ويكون ذلك عندما يصدر عن المشرع الذي سن التشريع الأصلي تشريعاً آخر لتفسيره ويسمى " القانون التفسيري " حين يرى بأن الضرورة تدعو لذلك.
و التفسير التشريعي قد يرافق النص نفسه حين يرى المشرع ضرورة وضع التعريفات أو تفسير بعض العبارات أ المصطلحات القانونية مثل : تعريف المؤامرة في المادة 260من قانون العقوبات السوري و والتسول في المادة 596 , و التشرد في المادة 600.
وقد يأتي التفسير لاحقا لقانون عندما يكون التطبيق قد كشف غموضه و يرى المشرع أن من واجبه التدخل لإزالة هذا الغموض . ويعتبر هذا القانون التفسيري بمنزلة التشريع نفسه الذي يراد تفسيره وجزءً منه ولذلك التفسير التشريعي هو أكثر أنواع التفسير أهمية وقوة من الوجه القانونية وإن كان أسلوب نادر في القانون الجنائي ومتى صدر قانون تفسيري فهو ملزم للقاضي كالتزامه بأي قانون آخر . و من هنا يأتي الفرق بين القانون التفسير الذي يأتي لإزالة غموض النص وبين القانون التكميلي الذي يسنه الشارع يقصد إكمال نص كشف التطبيق عن التطبيق عن قصوره فالنص التفسيري يعتبر جزءا لا يتجزأ من النص المفسر و يخضع لجميع أحكامه أما النص التكميلي فهو نص مستقل تطبيق عليه القواعد القانونية العامة .
2 - التفسير القضائي :هو أكثر أنواع التفسير شيوعاً وأشدها أهمية من الوجهة العملية وإن يكن من الوجهة القانونية أدنى مرتبة من التفسير التشريعي ، وهذا التفسير هو الذي يصدر عن القضاء في معرض تطبيقهم للقواعد التشريعية أي في معرض القضية المعروضة أمام القضاء من أجل هذه القضية فقط حيث أن التفسير القضائي ليس له الصفة الإلزامية إلا بالنسبة للقضية التي صدر من أجلها . أي أن التفسير الذي صدره محكمة من المحاكم غير ملزم إلا في القضية التي فصل فيها ومن الجائز مخالفته وتبني تفسير معاكس له في القضايا المماثلة سواء من قبل المحاكم الأخرى أو من قبل المحكمة نفسها التي أصدرت التفسير الأول هذا هو الأصل إلا أن في الواقع تكون مقيداً برأي المحاكم العليا وعلى المخصوص محكمة النقض .
وهذا ما نجده في سوريا و بعض الدول العربية الأخرى حيث أن الأحكام محكمة النقض والنص و الاجتهادات الصادرة عنها أهمية كبيرة في تفسير و تطبيقه و خاصة إذا تواترت و تأكدت حيث أن الكثيرة من القضاة يتجهون إلى تبني آراء محكمة النقض مدفوعة بالتزام أدبي لا ينكر أثره في حين تذهب بعض الدول كما في انكلترا إلى أن قرارات بعض المحاكم لها قوة ملزمة في القضايا المماثلة و هي قد تنشىء قواعد لها قوة القانون المحاكم .
3 - التفسير الفقهي :هو الذي يصدر عن الفقهاء وذوي الاختصاص في القانون المطروحة في كتبهم و مباحثهم المنشورة , بغية تحليل النصوص القانونية و شرحها ضمن إطار النظرات العامة و المبادئ الأساسية التي قررها المشرع .
ولقد لعب فقهاء القانون دورا أساسيا في تفسير الشرائع الوضعية و إيضاح غموضها و رفع الالتباس عنها كما لعبوا دورا أساسيا في تطوير التشريع في البلاد و كثيرا ما دفعوا المشرع لإصدار المشرع قوانين جديدة , تزيل غموض النصوص القانونية القديمة و عيوبها أو تضيف جرائم أو عقوبات جديدة أو تعدل من عناصر التجريم والعقاب .
إلا أن الفقه في أغلب الشرائع الوضعية و منها القانون السوري ليس له قوة ملزمة من قبل المحاكم .
متى يجوز التفسير :
التفسير يكون في حالة غموض النص أو نقصه فالنص إما أن يكون غامضاً وإما أن يكون ناقصاً .
1 - النص الغامـــض :
ويعتبر النص مشوباً بالغموض أو الإبهام فيما إذا كان عباراته غير واضحة كل الوضوح بحيث يحتمل التأويل والتفسير وبحيث يمكن أن يستنتج منها أكثر من معنى واحد وبالتالي يجب على القاضي الجنائي أن يؤوله ويبحث عن معناه الحقيقي الذي قصده الشارع مثله مثل القاضي المدني تماماً ويستطيع أن يستعين بكل طرق التفسير المنطقية واللغوية بحيث يستطيع أن يرجع إلى الأعمال التحضيرية والمذكرات الإيضاحية للقانون إلى النصوص السابقة وللقاضي المصري فوق ذلك يستطيع أن يسترشد بمقارنة النص العربي بالنص الفرنسي لأن كل منهما يكمل الآخر .
2 - النقص والسكوت :
ويعتبر أن هنالك نقصاً في النص فيما إذا جاءت عباراته خالية من بعض الألفاظ التي لا يستقيم الحكم إلا بها أو إذا أغفل التعرض لبعض الحالات التي كان يفترض أن ينص عليها في هذه الحالات يجب على القاضي الجزائي أن يحكم بالبراءة لأنه لا يستطيع أن يمتنع عن الفصل في الدعوى بحكم ينهي الخصومة المعروفة أمامه لأن امتناعه عن الحكم يوقعه تحت طائلة العقاب وكذلك لا يستطيع أن يعتبر المتهم جانياً استناداً إلى مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص القانون . وبذلك يختلف القاضي الجزائي عن القاضي المدني .
فالقاضي المدني يجب عليه أن يفصل لمصلحة المدعي أو المدعي عليه ولا يجوز له أن يمتنع عن الفصل فيها بحجة سكوت المشرع بل يجب عليه أن يلجأ إلى التفسير بطريق القياس أو إلى تطبيق المصادر الأخرى العرف قواعد الشريعة الإسلامية .
ثانياً : أنواع التفسير من حيث النتيجة :
قد يكون مقرراً أو مقيداً أو مفسحاً :
1يكون مقرراً : إذا كانت عبارات النص واضحة بحيث يفهم معناه منه ويؤدي إلى استظهار غرض الشارع .
2- يكون مقيداً أو مفسحاً : عندما تقصر ألفاظ النص لدلالة على غرض الشارع قد تفيد هذه الألفاظ أكثر مما أراده الشارع عندئذ يجب أن يكون التفسير مقيداً وعلى العكس قد تنطوي الألفاظ في الظاهر على أقل مما أراده الشارع في هذه الحالة يجب أن يكون التفسير مفسحاً فيحيط بجميع أغراض الشارع مثل : م (98 ) من قانون العقوبات " يعاقب بالحبس كل من علم بوجود مشروع لارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المواد 78 – 89 و 90 و 91 و 92 و 93 و 94 من هذا القانون ولم يبلغه إلى السلطات العامة " .
فظاهر هذا النص يدل على أن كل شخص علم بأن هناك مشروع لارتكاب جريمة من هذه الجرائم يجب أن يبلغ السلطات العامة بغض النظر عن الوسيلة التي علم بها سواء كان عن طريق الصحافة أو عن طريق التلفاز ولكن هذا معنى غير مقصود عقلاً .
في هذه الحالة لابد أن نضيف من تفسير النص ليتفق غرض الشارع لأن الأخبار عن مشروع ارتكاب جريمة ليس له الأهمية إلا إذا كانت خافية عن عامة الناس .
أما التفسير المفسح :
إن نصوص القتل العمد يدل في ظاهرها على أن القتل لا ترتكب إلا بوسيلة إيجابية فالأم التي تمتنع عن إرضاع طفلها بقصد قتله فهي لا تعاقب بجريمة قتل العمد ولكن ليس هذا الغرض أراده الشارع حيث أن الشارع يحمي حق الإنسان في الحياة سواء تم ذلك بنشاط إيجابي أو بنشاط سلبي .
ولا يقف تفسير المفسح عند هذا الحد مثال فإذا كان القانون يشترط لعدم مساءلة السكران أن يكون قد أخذه قهراً أو دون إرادته فمعنى ذلك إذا أخذا باختياره لا يعفيه من المسؤولية . أي أن النص قد يتضمن حكماً لحالة معينة في الظاهر ويكون قصره على هذه الحالة غير مقصود .
مراحل التفسير :
لتفسير النصوص الجزائية مرحلتين هما : تحليل ألفاظها وتحديد علتها :
1 - تحليل ألفاظ النص :
النص يتكون من الألفاظ ولذلك لابد للمفسر أن يعلم بمدلول كل لفظ ولذلك تكون أولى خطوات التفسير هي الكشف عن مدلول كل لفظ على حدى ، في هذه الحالة يلجأ المفسر إلى اللغة ليبحث عن المعنى الذي أعطاه اللغة لهذا اللفظ وقد يكون هذا المعنى هو الذي أراده الشارع وقد لا يكون المعنى الذي أراده الشارع لأن المشرع أحياناً يريد من بعض الألفاظ مدلولاً اصطلاحياً خاصاً ، في هذه الحالة يجب على المفسر أن يبحث في اللغة القانون بحيث يستطيع أن يبحث في تاريخ النص ويحدد مصدره التاريخي ويسترشد بالظروف التي أوجدت النص ويستطيع أن يقارن هذا النص بالنصوص الأخرى المتصلة به أو يقارنه مع التشريعات الأجنبية ولاسيما إذا كان مصدراً له .
2 - تحديد علة النص :
يستهدف الشارع من النص غرضاً معيناً هو كفالة التنظيم القانوني لموضوع معين ويحدد هذا الغرض الأحكام التي يتضمنها النص .
فالقانون يهدف إلى حماية حقوق معينة يرى المشرع بأنها جديرة بالحماية الجزئية وبالتالي إذا حدد المفسر هذا الحق بدقة يستطيع أن يحدد أركان الجريمة التي بالعقاب عليها يحمي هذا الحق
مثال:ففي جريمة القتل يحمي المشرع حق الإنسان في الحياة وبالتالي إذا استطاع المفسر أن يحدد هذا الحق بدقة " حق الحياة " يستطيع أن يحدد أركان هذه الجريمة ويستطيع معرفة بأن كل فعل يؤثر على هذا الحق سواء كان بنشاط إيجابي أو سلبي يعد جريمة قتل .
في هذه الحالة يجب على المفسر أن يهتدي بالعلة العامة للنظام القانوني وأن يحدد للنص وظيفته الاجتماعية في نطاق التنظيم القانوني العام لأن كل نص هو جزء من النظام القانوني للدولة وأن له وظيفة التي يساهم بها في الوظيفية العامة للتنظيم القانوني لأن هذا التفسير الذي يصل إليه المفسر قد يتعارض مع نص آخر في هذا القانون .
* فيما يخص التفسير يمكننا أن نتساءل هل يخضع تفسير النصوص الجزائية لقواعد خاصة :
لقد تعددت الاتجاهات في هذا الشأن :
فذهب الرأي الأول : إلى أن تفسير النصوص الجزائية يجب أن يكون ضيقاً ( أي يجب على القضاة أن لا يتوسعوا في تفسيره ) وهذا الرأي يستند على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات لأن القاضي كلما توسع في نطاق تفسير النصوص الجزائية أدى ذلك إلى امتداد نطاق التجريم والعقاب على الأفعال الذي لم يجرمها القانون ولم يقرر من أجلها عقاباً .
بينما ذهب الرأي الثاني: إلى أن التفسير يجب أن يكون في حدوده الضيقة ضد مصلحة المدعى عليه وواسعاً لمصلحته وحجتهم في ذلك بأنه لا يخالف مبدأ الشرعية .
ولكن هذا الكلام غير صحيح فعندما نطلب أن يكون التفسير ضيقاً فمعنى ذلك أن يكون حرفياً وبالتالي وضع قيود على النشاط الذهني للمفسر وبالتالي يكون تفسيره ترديداً لعبارات الشارع في صيغ مختلفة كما أن النص في هذه الحالة لا يستطيع مواكبة المستجدات على الساحة الواقعية والاجتماعية .
أما القول بأن التفسير يجب أن يكون واسعاً في مصلحة المدعى عليه يمكن الرد عليه بأننا جعلنا من التفسير هدفاً في ذاته في الوقت الذي يجب أن يكون التفسير حسب ظروف الجريمة وشخصية المدعى عليه كما أنه يؤدي في بعض إلى إعفاءه من العقاب وهو شخص خطر على المجتمع .
قيـــــــــود التفســير
يقيد التفسير في القانون الجزائي قاعدتان : قاعدة التفسير لبضيق للنصوص الجزائية و قاعدة حظر القياس في النصوص الجزائية .
القاعدة الأولى : التفسير الضيق للنصوص الجزائية :
إن القاضي الجزائي مقيد بقاعدة التفسير الضيق للنصوص الجزائية و ذلك بخلاف القاضي المدني حيث يتمتع القاضي بحرية واسعة في تفسير النصوص المدنية فهو يلجا إلى القياس و مفهوم المخالفة و قواعد اعرف لكي يصل مقصد الشارع من النص أما القاضي الجزائي يجب أن يتقيد بالنص فلا يتوسع في تفسيره فيخلق جرائم و عقوبات غير منصوص عليها ولا يجوز له مراعاة العرف إلا في الحالات الاستثنائية التي أشرنا إليها كما أنه لا يجوز إطلاقا تطبيق مبادىء القانون الطبيعي و قاعد العدالة .
القاعدة الثانية : خطر القياس في النصوص الجزائية :
القياس هو إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص في الحكم المنصوص عليه لاشتراكهما في علة الحكم فالقياس إذا وسيلة للتوسع في تطبيق النص على حالات مماثلة لم ينص المشرع صراحة عليها و هذا معناها خلق جرائم جديدة لم ينص القانون عليها وبالتالي الخروج على مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات و لهذا فقد اتجهت أكث التشريعات الحديثة إلى عدم الأخذ بالقياس في القضايا الجزائية و هذا ما نجده في سورية ,حيث الاتجاه السائد في القانون والقضاء و الفقه هو رفض القياس كليا سواء أكان لصالح المتهم أو في غير مصلحته .
ولذلك جاء في المادة الأولى من قانون العقوبات ( أنه لا تفرض عقوبة من أجل جرم لم يكن القانون قد نص عليه حين اقترافه ) وقررت محكمة النقض السورية ( فإنه لا مساغ للقياس في الأمور الجزائية ) . وقررت محكمة التمييز الفرنسية ( لا يجوز لقاضي أن يسعى عن طريق القياس إلى إكمال نقص القانون و توقيع العقاب في غير الحالات التي نص عليها الشارع .
و أخيرا نقول بأن القياس يجب ألا يصل إلى حد خلق جرائم وعقوبات و يجب على المفسر أن يقف في بحثه عمد الحد الذي يتبين له فيه بأن تفسيره قد يجرم الأفعال غير المنصوص عليها في القانون و يؤدي التسليم بهذا القيد إلى حظر القياس على من يفسر نص التجريم و بالتالي القاضي لا يستطيع أن يقيس فعل غير منصوص عليه على فعل منصوص عليه مهما كان هناك تشابه بين خصائص الفعلين , فالقاضي لا يستطيع أن يقيس على وسائل لاحتيال التي نص عليها الشارع في المادة 655 من قانون العقوبات وسيلة لم ينص القانون عليها , ولكن يجب الانتباه إلى أن حظر القياس يكون فقط في نطاق التجريم و العقاب لأن حظر القياس يستند على مبدأ الشرعية و بالتالي يمكن اللجوء إلى القياس في تفسير نصوص الإعفاء و أسباب التبرير و التخفيف .
مثال : نص الفقرة (أ) من المادة 185 من قانون العقوبات المتعلقة بإباحة تأديب الأولاد من قبل آباءهم حيث لا يوجد ما يمنع من تطبيق هذا النص بطريق القياس على الأم و الوصي .
ونص المادة 320 من قانون العقوبات الذي يعفي من العقاب من كان في حالة جنون حيث يمكن تطبيقه بطريق القياس على المصاب بالصرع أو بمرض اليقظة في النوم أو المنوم مغناطيسيا إذا ارتكب أحد هؤلاء جريمة أثناء فقده كامل وعيه و حرية اختياره .
هل يفسر الشك لمصلحة المدعى عليه :
قلنا إذا كان النص غامضاً فيجب على القاضي الجنائي أن يؤوله ويبحث عن معناه الحقيقي الذي قصده الشارع وله أن يستعين في ذلك بكل طرق التفسير المنطقية واللغوية . ولكن أحياناً يكون الوصول إلى قصد الشارع مستحيلاً في هذه الحالة " الشك يفسر لمصلحة المدعى عليه " والمجال الرئيسي لتطبيق هذه القاعدة هو الإثبات فإذا تعادلت أدلة الإدانة مع أدلة البراءة فيجب على القاضي أن يحكم بالبراءة لأن البراءة هو الأصل والبراءة قائمة على اليقين والإدانة قائمة على الشك واليقين يتقدم على الشك .
خــــــــــــــــــــــــاتمـة
على الرغم من الانتقادات الموجهة لمبدأ الشرعية إلا أنه مازال صامداً إلى وقتنا الحالي ويجد تطبيقاً له في كثير من الدول بل اعتبره بعض الدول من المبادئ الدستورية ونص عليه في دساتيرها .
نظراً للأهمية العملية لهذا المبدأ سواء بالنسبة للأفراد أو للقضاء فأما بالنسبة للأفراد تمثل هذا المبدأ إنذار مسبق للعلم بالأفعال المجرمة والعقوبة المقررة لها وبالتالي ترك الحرية للأفراد بإتيان الأفعال الغير منصوصة عليه . أما بالنسبة للقضاء فإنهم يجدون في مبدأ الشرعية الأساس القانوني لتجريم الأفعال وتحديد العقوبات . فضلاً على أنه أفضل حل لمنع تسلط القضاة في الأحكام .
المراجع :
1 - قانون العقوبات - القسم العام – ( د. عبود السراج ) .
2 - شرح قانون العقوبات اللبناني ( د. محمود نجيب حسين ) .
3 - قانون العقوبات العام المصري ( د. محمود محمود مصطفى ) .
4 - الموسوعة الجنائية – الجزء الخامس – جندي عبد الملك .
5 - الموسوعة الجنائية- الجزء الخامس – ( د. جندي عبد الملك ) .
6 - مجلس أوربا – المعاهدات الأوربية لحماية حقوق الإنسان ( دار العلم للملايين ) .
7 - حقوق الإنسان في الوطن العربي ( حسن جميل ) .