منتديــــــــــــــــــات العدالــــــــــــــــــــــــــة و القانـــــــــــــــــــــــــــون
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
ها هي الورود تنثر شذاها لتستقبل بكل حب ومودة
وبأحلى عبارات الترحيب نرحب بك
ونتمنى أن نرى شذى عطرك ينثر على أرجاء منتدانا
فيا أهلا وسهلا بك وبمقدمك الكريم وأتمنى من كل قلبي أن
تكون قمراً ساطعاً بنور حضورك وضياءك بمشاركاتك
القيمة معنا ونحن في الانتظارك وإن شاء الله تقضي أسعد
الأوقات معنا
منتديــــــــــــــــــات العدالــــــــــــــــــــــــــة و القانـــــــــــــــــــــــــــون
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
ها هي الورود تنثر شذاها لتستقبل بكل حب ومودة
وبأحلى عبارات الترحيب نرحب بك
ونتمنى أن نرى شذى عطرك ينثر على أرجاء منتدانا
فيا أهلا وسهلا بك وبمقدمك الكريم وأتمنى من كل قلبي أن
تكون قمراً ساطعاً بنور حضورك وضياءك بمشاركاتك
القيمة معنا ونحن في الانتظارك وإن شاء الله تقضي أسعد
الأوقات معنا
منتديــــــــــــــــــات العدالــــــــــــــــــــــــــة و القانـــــــــــــــــــــــــــون
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديــــــــــــــــــات العدالــــــــــــــــــــــــــة و القانـــــــــــــــــــــــــــون

الجـــــــــــــــــــــــــــــــزائــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

.: عدد زوار المنتدى :.

free counters
مواضيع مماثلة
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» مراحل و إجراءات إعداد عقد بيع عقار في التشريع الجزائري
مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالأربعاء أكتوبر 01, 2014 9:34 am من طرف جميل الروح

» اكبر مكتبة للقوانين و البحوث القانونية -تحميل مجاني-
مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالأربعاء أكتوبر 01, 2014 9:03 am من طرف جميل الروح

» بلال لحساب أوقات الصلاة
مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 17, 2013 4:01 pm من طرف السنهوري

» برنامج منبه الذاكرين
مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 17, 2013 3:59 pm من طرف السنهوري

» برنامج القران الكريم باللغة الفرنسية
مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 17, 2013 3:57 pm من طرف السنهوري

» رنامج ادارة حلقات تحفيظ القرآن الاصدار الرابع
مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 17, 2013 3:53 pm من طرف السنهوري

» لتحميل بحث بعنوان حماية المحل التجاري.PDF
مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالإثنين ديسمبر 16, 2013 3:21 pm من طرف malik04

»  [ تجميـــــــع سلسلــــــــة برنامج '' القلب السليم '' ]-[ Mp3]-[ للشيخ عمر عبد الكافي ]
مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 11, 2013 10:04 am من طرف Admin

» التعليق على حكم قضائي
مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالجمعة نوفمبر 22, 2013 5:25 pm من طرف السنهوري

ازرار التصفُّح
 البوابة
 الرئيسية
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 بحـث
منتدى
التبادل الاعلاني
نوفمبر 2024
الإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبتالأحد
    123
45678910
11121314151617
18192021222324
252627282930 
اليوميةاليومية
منتدى
المواضيع الأكثر شعبية
قانون الضرائب غير المباشرة-الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبيــة
القانون المدني الجزائري.pdf
جرائم العرض في القانون الجزائري
وثائق الحالة المدنية الجزائرية.pdf
كتاب Express English لتعليم قواعد اللغة الانجليزية.pdf 8,658 KB Express English تحميل كتاب لتعليم قواعد اللغة الانجليزية.pdf d
نظام التقاعد في الجزائر
دروس الكفائة المهنية للمحاماةcapa
للتحميل القانون المدني المصري.pdf
مجموعة كتب قانونية كبيرة جدا لكل المحامين و القانونيين
موسوعة تضم اكثر من 100 رسالة ماجستير في العلوم القانونية
google1+

 

 مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
السنهوري




عدد المساهمات : 2141
نقاط : 6186
النخبة : 0
تاريخ التسجيل : 15/06/2011

مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Empty
مُساهمةموضوع: مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم   مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالجمعة يناير 27, 2012 2:23 pm

البحث الحائز على جائزة المركز الثاني بالمناصفة في مسابقة معالي السيد حسن عباس شربتلي العالمية للتعريف بنبي الرحمة r عام 1428هـ.





الدكتورة سارة آدم

تحاضر عن

مظاهر الرحمة للبشر في شخصية النبي محمد r









تأليف الأستاذ الدكتور

زيد عمر العيص

جامعة الملك سعود بالرياض

قسم الثقافة الإسلامية





مقدمة بقلم
الدكتور/ عادل بن علي الشدي
أمين عام البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة r

الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم رسل الله الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:

فقد يسرَّ الله تعالى انطلاق المسابقة العالمية للتعريف بنبي الرحمةr على جائزة معالي السيد حسن عباس شربتلي في دورتها الأولى بتنظيم من «البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة r» الذي تُشرف عليه رابطة العالم الإسلامي.

ومن توفيق الله أن تم اختيار «مظاهر الرحمة للبشر في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم» موضوعاً للمسابقة في عامها الأول ذلك أن الرحمة من أظهر وأعظم ما اتصف به هذا النبي الكريم فهو الرحمة المهداة من الله لخلقه كما قال سبحانه: ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ [الأنبياء/107] ويكفي في تأكيد ذلك تدبر قوله تعالى: ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ [التوبة/128].

وحين تتحول نصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومحبته إلى عمل واقتداء، ونصرة واعية لخاتم الأنبياء، فإنها تثمر أطيب الثمار وأينعها وهو ما تحقق من خلال هذه المسابقة التي زاد عدد الباحثين المتقدمين لها عن (430) باحثاً من خمسة وعشرين بلداً على الرغم من كونها مسابقة جديدة ناشئة.

ولست أدري في هذه المقدمة هل أهنئ أم أشكر من ساهم فيها برعاية أو دعم، أو فكرة أو تحكيم، أو كتابة أو تأليف، فهم جميعاً مستحقون للشكر والتقدير لكنهم قبل ذلك يُغبطون ويهنئون على ما وفقهم الله إليه من شرف المساهمة في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، والتعريف به في العالمين، وأخص منهم صاحب السمو الملكي الأمير/خالد الفيصل آل سعود أمير منطقة مكة المكرمة الذي رعى حفل الجائزة وكرّم الفائزين و معالي الدكتور/ عبد الله بن عبد المحسن التركي الذي قبل الإشراف على البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمةr وهيأ له الفرصة للعمل تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي، ورأس لجان تحكيم هذه المسابقة العالمية، وفضيلة الدكتور/محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الذي لبى دعوة الجائزة وحضر حفلها ضيف شرف كريم.

كما أشكر وأهنئ سعادة الشيخ/عبد الرحمن بن حسن شربتلي وسعادة الشيخ/ إبراهيم بن حسن شربتلي وإخوانهما الكرام على تكفل مؤسسة معالي السيد حسن عباس شربتلي الخيرية بتكاليف هذه المسابقة في كل دورة من دوراتها.

والشكر موصول لجميع العاملين في تنظيم هذه المسابقة العالمية وتحكيمها وخصوصاً فضيلة مقرر لجان التحكيم بالمسابقة الدكتور/خالد بن منصور الدريس، كما أتقدم بالتهنئة والدعاء لجميع من شارك في هذه المسابقة بلا استثناء وأدعوهم إلى استمرار التواصل مع البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمةr الذي يعتز بكون هذه المسابقة العالمية أحد أهم نشاطاته إضافة إلى تنظيم المؤتمرات والندوات، والمعارض والدورات، وتقديم البرامج الإعلامية، وإنشاء المواقع العالمية على شبكة الإنترنت، وطباعة الكتب بمختلف اللغات للتعريف بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.

وبين يديك أيها القارئ الكريم ثمرة يانعة من ثمار هذه المسابقة العالمية تمثلت في بحث قيّم تقدم به الدكتور/زيد بن عمر العيص ونال التقدير اللائق به في كافة لجان تحكيم المسابقة لما اتصف به من الشمول والاستيعاب وحسن العرض والمناقشة والجدة والابتكار مع الأصالة والتوثيق العلمي مما جعله يحوز الجائزة الثانية بالمناصفة.

أسأل الله أن يبارك في هذا الجهد وأن يوفقه إلى ترجمته ونشره بلغات متعددة.

كما أسأله سبحانه أن يجعلنا جميعاً من أنصار نبينا محمد r وحملة رسالته للعالمين وأن يزيدنا بذلك شرفاً ورفعة في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.







كلمات بين يدي المحاضرات




بسم الله الرحمن الرحيم، له الحمد سبحانه، أنعم على البشرية، برسل كرام، عليهم منه تعالى الصلاة والسلام، وبعد :-

أرى ويرى كثيرون، أن حاجة البشرية المعاصرة، إلى الماضي، وما في معطياته، وتراثه، من نافع ومفيد، لا تقل عن حاجتها إلى ما جادت به الحضارة المعاصرة، من إبداعات، وإنجازات، إن لم تكن في بعض الجوانب تزيد.

إن في الماضي القديم، جمالاً ترنو النفس إليه، لا يقل عن جمال الحاضر المعاصر، على الرغم من أن شغف البشرية بحاضرها كاد ينسيها ماضيها الثري الغني في كثير من صفحاته.

لا أحسب أن أحداً يُعرض عن هذا الحديث، أو يُعرِّض به، وهو يرى ـ كما أرى ـ أن البشرية منهكةٌ، رغم ما توافر لها من وسائل راحة، وأمان، تائهةٌ رغم ما توصلت إليه من تقنيات عزت على الحصر، متناحرةٌ وعوامل الالتقاء بين أفرادها أضعاف عوامل الافتراق.

البشرية المعاصرة مدعوة بإلحاح وإشفاق، إلى أن تبحث في كل الاتجاهات، لعلها تجد طريقاً تأخذ بيدها إلى عالم المحبة والتراحم والتسامح .

أحسب أن البشرية تتجه إلى الماضي، حيث كان عظماؤها الذين مضوا، فهم ملك البشرية جمعاء، يحق للأجيال المتتابعة أن تطَّلع على سيرهم، وتنهل من المعلوم الممكن التطبيق منها، لعلها أن تجتمع عليه، بغية محاصرة مظاهر الفرقة، والاختلاف، وبث أسباب التراحم، والالتقاء، وإن لم يكن هذا، فما فائدة أن تحتفظ البشرية بسيرة هؤلاء وتاريخهم، ما لم تفد منها.

إن الناس، كل الناس، يحبون الأخبار الصادقة، ويتفاعلون مع المواقف المؤثرة، ويستجيبون للأحداث الإنسانية، وإنها لتبعث في النفس كوامن الخير، وتصرف عنها بواعث الشر.

كثيرون أولئك الذين يلقون محاضرات، أو يشاركون في ندوات، تعرض لمثل هذه الموضوعات، بغية بيانها للناس، وتزيينها في عيونهم، لتجد لها مكاناً في قلوبهم، وذلك قياماً بالواجب من هؤلاء وأداءً للأمانة.

كم من هؤلاء من يستحق أن يكتب كلامه لتكتحل به عيون القراء، بعد أن طربت له آذان المستمعين، لا جواب لديَّ بيقين، مع تقديري لكل هؤلاء المجتهدين.

بيد أني أملك القول، إن الدكتورة سارة آدم، الأستاذة في علم الاجتماع، وفلسفة الأخلاق، واحدة من هؤلاء، فقد استمعت إليها في تسع محاضرات، متتابعات، فكانت منها الإجادة، والإفادة، فحق لما قالته أن يُسمع، وحق له أن يكتب ليقرأ.

أرادت الدكتورة سارة لحديثها، أن يكون عن عظماء البشرية، الذين تمثلت في سيرهم الإنسانية، بكل إشراقاتها لتقدم لأبناء هذا الجيل، نماذج حية لمن جعلوا من الأخلاق النظرية حياة واقعية، سهلة الفهم، يسيرة التطبيق.

بيد أن التاريخ ـ رغم ما كان منها من بحث، وجهد جهيد ـ بخل عليها بالمعلومات التي تريد، عمن مضى من العظماء، وتلك عقبة في الطريق، فكيف يقتدى بالمجهول، باستثناء واحد من هؤلاء، كان التاريخ معها كريماً جد الكرم، بما أمدها من معلومات كافية وافية عنه، إنه النبي الرحيم محمد بن عبد الله r.

بان لها أن الحديث عن سيرة النبي محمد r ذو شجون، وذو فنون، لا يتسع له المقام، ولا يأتي عليه الكلام، فنظرت في وصف جامع لا يفارق أقوال النبي r، ولا أفعاله، في كل أحواله، فكان هذا الوصف هو الرحمة، بكل مظاهرها، وحين عزمت على أن تحاضر عن النبي محمد r قصرت الحديث عليها، بعد مقدمة دعت الحاجة إليها.

عرضت في محاضراتها التسعة، قصصاً، وأحداثاً، من سيرة النبي محمد r، قد لا تكون جديدة على فئات كثيرة، فقد مرت بهم فرادى، متناثرة ، لكن الجديد المفيد، أنها نجحت في الكشف عن الوجه الآخر لها، حين جمعتها في نسق عجيب،وموكب مهيب، لتكشف من خلالها عن نظرية نبوية، أخلاقية، تكاملت في البناء، وتوازنت في الأنحاء، كانت الرحمة نقطة الارتكاز فيها.

أشفقت عليها، وأكبرت همتها، وهي تبحث عن المعلومة الصحيحة، تسوقها دليلاً، ولا ترضى عنها بديلاً، وإنه منهج يملي عليَّ أن أقول، إن حبل محاضرات الدكتورة سارة موصول بالمصادر الأصلية التي تلقتها الأجيال بالقبول نقلت عنها، واتكأت عليها، وهي تدلل وتحلل، وإن بدا لي بعض تصرف يسير فيما تورد من روايات، في زيادة كلمة، أو استبدالها بمرادف لها، بغية التوضيح لا غير، وأحسب أن ليس في ذلك من ضير.

ولقد رغبت أن لا تثقل الهامش بسرد المراجع وكثرة الإحالات، فكانت تكتفي بواحد منها، وربما باثنين، حتى إن ورد الحديث، أو القصة، في مراجع عدة. وقد استرعى انتباهي، عدم حرصها على عناوين لمحاضراتها، لأنها تعتبرها سلسلة واحدة، مما جعلها تضع لها عناوين عفوية.

سمعتها تقول، غير مرة، إنها تسعى جاهدة، لتكون محاضراتها، بعيدة عن المخاصمات العلمية، والمناقشات الجدلية، لتبدو وكأنها حوارات في جلسات عائلية، محاضرات واقعية، من واقعية ما يذكر فيها من أخبار، وأحداث، بسيطة من بساطة صانع هذه الأحداث النبي محمد r، وهنا تكمن العظمة كما ترى.

تسع محاضرات، طافت فيها الدكتورة سارة على حدائق ذات بهجة، من السيرة النبوية، جمعت منها بتنسيق دقيق، باقةً، كل زهرة فيها مظهر من مظاهر رحمة النبي r بالبشر، قدمتها للبشرية هدية، تصاحبها بطاقة صغيرة مكتوب عليها قول النبي محمدr (إنما أنا رحمة مهداة).

يبقى ما تقدم وجهة نظر، ورؤية خاصة بي، وربما يكون للقارئ رأي آخر، بعد أن يحل ضيفاً على هذه المحاضرات التي لا أود أن أكشف عن مضامينها، ولا أن أقدم لها تلخيصاً، يفقدها عنصر المفاجأة، وحلاوة العرض الجميل.

وأراني راغباً في الاختصار، لأن القارئ مثلي، يمل الانتظار. بقيت جملة واحدة، أقول فيها لعزيزي القارئ :

الدكتورة سارة آدم

تتحدث إليك عن

مظاهر الرحمة للبشر في شخصية النبي محمد r

المؤلف

أ. د. زيد عمر العيص

alees@maktoob.com









المحاضرة الأولى


أزمة في القيم وبخل في التاريخ




الذين يعرفون الدكتورة سارة آدم أستاذ علم الاجتماع ـ التي تحاضر في جامعات عدة، ومنتديات علمية عن فلسفة الأخلاق ـ بخاصة أولئك الذين يواظبون على حضور محاضراتها ـ الأكاديمية ـ أو الثقافية ـ لا يكادون يختلفون في أنها شغوفة بالمعلومة وبالبحث عنها، فهي ترفض تقسيمها إلى معلومة مهمة، أو غير مهمة، أو إلى صغيرة وكبيرة.

قالت غير مرة، إن الإنجاز الكبير، هو عبارة عن مجموعة إنجازات صغيرة، ربما لا يتنبه إليها، فالحقيقة الكبرى هي عبارة عن مجموعة حقائق صغيرة كما يعرفون عنها، أنها تعنى بالقراءة بين السطور.

الذي يسترق السمع إلى ما يدور بين طلابها والمتابعين لمحاضراتها، يرى أنهم بقدر إعجابهم بطروحاتها، وبمنهجها، وتشوقهم إلى جديدها، بقدر شعورهم بالإرهاق أحياناً، وربما الملل حين تشرع بسرد التفاصيل، وتتبعها بالتحليل، ولا يخفى بعضهم في الوقت نفسه، أنها حظيت بإعجاب الكثيرين بسبب منهجها هذا.

وكأني ببعضهم يود أن يتساءل على استحياء هل حقاً ما قيل إن الشياطين تكمن في التفاصيل، لولا خشيته من نظرة عتاب، أو كلمة لوم، ربما يتبعها حساب من الدكتورة سارة ذلك أنها ترفض فلسفة هذه المقولة، بخاصة في المحافل العلمية، وقاعة الدرس.

ترى أنها بضاعة أهل السياسة، الذين تتعرض لبعضهم أحياناً، وتُعرِّض بطائفة منهم لسبب ظاهر عندها، هو جنايتهم على الحقيقة، بعموميات يطرحونها، وعبارات يرددونها، يخفون في طياتها ما لا يسر، وتلحق بهم أولئك الذين يُزوِّرون الحقائق، ولا يحترمون عقول البشر في حالات متعددة ومنهم بعض الصحفيين.

لقد شهد لها غير واحد بأنها لا تملك مواقف مسبقة، أو محدده، من فئة معينة، وإنما الذي يُعرف عنها، هو انحيازها إلى المعلومة، من حيث هي، واحترامها الشديد إلى أولئك الذين يستمعون إليها، أو يقرأوون لها، لأنها تشعر أنهم يتفضلون عليها.

اعترفت الدكتورة سارة آدم، في بعض جلساتها الخاصة، أن منهجها هذا، الذي تحرص عليه، منذ سنوات، قد جلب لها بعض المتاعب، منها نقد بعض زملائها لها، بحجة أنها تغري طلابها أحياناً، بتوسيع دائرة النقد، وعدم القبول بالمعلومة، إلاَّ بعد المحاورة، وطرح العديد من الأسئلة.

بينما ترى هي أن المحاضر والكاتب، أياً كان، لن يتسنى له أن يحوز على احترام الجمهور، وانتزاع ثـقتهم به، ما لم يبادر هو باحترام قدراتهم، وتقدير عقولهم، واعتبار جمهوره الخاص شريكاً له في الوصول إلى الحقيقة.

لقد غرست في أذهان طلابها، أن المعلومة الصحيحة، علامة فارقة بين من يملكها، وبين من لا يملكها، وكانت دائماً تقول لهم، جاء في القرآن الكريم: ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ [الزمر: 9]، ثم تصمت قليلاً، فيقولون طبعاً لا.

وكانت ترى كذلك، أن الأعمال الفاضلة متعددة، وأن من أفضلها، الوصول إلى الحقيقة، وتذكر في هذا المقام، عبارة وردت في الإنجيل، كانت ترددها كثيراً تقول (وأساس البر البحث عن الحقيقة, والوصول إليها).

اختلفت في بعض المناسبات العلمية، مع بعض زملائها فهي ترى أن القارئ، أو المستمع، شريك في الوصول إلى الحقيقة، في حين يرى بعضهم، أن كثيراً من هؤلاء، لا يملك مؤهلات تمنح له هذا الحق، وكانت تقول دائماً، بعد هذا الحديث، أياً كان الأمر، فإنه لا يعني عدم احترام القارئ، أو المستمع، من خلال تجاهل المعلومة الصحيحة، وعدم الاعتراف بالحقيقة، وإن كانت مرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
السنهوري




عدد المساهمات : 2141
نقاط : 6186
النخبة : 0
تاريخ التسجيل : 15/06/2011

مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم   مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالجمعة يناير 27, 2012 2:28 pm

اضطرت الدكتورة سارة في بعض المواقف، إلى القول بأن د. هربرت أ. شيللر، حين وضع كتابه المتلاعبون بالعقول، ربما أغضب بعض الكتَّاب والباحثين، حين قال، إن ثمة نخبة تسعى إلى تضليل عقول الجماهير، بغية تطويعهم إلى أغراض خاصة(1) وتضيف هي، أو أغراض عامة لحساب جهات معينة، وهو ما يزيد الأمر قبحاً.

لم تخف الدكتورة سارة على طلابها، والمقربين منها، انزعاجها الشديد، حين ترى تشابهاً بين العمل الصحفي، وطرفاً من العمل الأكاديمي أحياناً، من حيث المنهج، أو الأهداف، فهي لم تفاجأ كثيراً حين قرأت كلاماً للإعلامي المشهور هنري لويس، مؤسس صحيفة التايم، وغيرها من الجرائد، والمجلات واسعة الانتشار، عندما يقول: (إن الموضوعية الصحفية شيء زائف تماماً، وبالتالي عندما نقول فلتذهب الموضوعية إلى الجحيم، فإننا نقصد بذلك هذا المعنى)(2) .

لم تفاجأ بهذا الكلام لأن الواقع يشهد له، في مواطن كثيرة، لكنها تفاجأ عندما ترى الوصف نفسه في بعض الأعمال الأكاديمية بل وتحزن كثيراً.

ذكر أحد المتابعين لنشاطها العلمي، أنها قالت في مداخلة لها على هامش ندوة علمية، إنني أعجب أشد العجب، من أولئك النفر من الناس الذين يغضبون أشد الغضب، حين تُسرق منهم بعض ممتلكاتهم الخاصة، ولا نلحظ فيهم ثورة الغضب هذه، حين يُسرق من بعضهم عقله، وحريته، في التفكير، ويصادر رأيه، فيصبح أسيراً لشخص ما، أو جهة ما، بل إنه لمن المؤسف أن نرى فئة من الناس تستسلم لهذا الأمر، وهي ضاحكة مستبشرة.

واجهت الدكتورة سارة بعض المتاعب الخفية بسبب منهجها ، وبعض مقولاتها، لكنها في المقابل حظيت بشهرة علمية، تكاد تكون محل اتفاق، وكسبت احترام كل من عرفها، عن قرب، حتى بعض أولئك الذين سببت لهم انزعاجاً، أو إحراجاً.

تحاضر الدكتورة سارة في موضوعات علم الاجتماع، وتعنى بعلم الأخلاق كما ذكرت، تحدثت في آخر محاضرة لها، بعنوان: دوافع الأخلاق الفردية، في ندوة حول حقوق الإنسان، في ظل الصراعات الدولية، عما أسمته أزمة القيم، الذي تمر بها البشرية اليوم، واعترفت أنها استعارت هذا المصطلح ، من مقالة للمفكر د. رجاء جارودي، حين قالSadإن البشرية اليوم تعاني من أزمة قيم، فقدت معها أخلاقها (1)، أو كادت).

رغبت في محاضرتها هذه، أن تدع الأرقام الصادقة، والصادرة عن جهات موثوقة، تتحدث عن هذه الأزمة، وتدلل عليها فقالت:



1- أكدت دراسة قامت بها جمعية حقوق الطفل، التابعة للأمم المتحدة، بيع عشرين مليون طفل خلال السنوات العشر الأخيرة ليعيشوا طفولتهم في ظروف قاسية.

2- ذكرت مجلة لانسيت العالمية البريطانية أن أربعة ملايين طفل يموتون سنوياً، خلال الشهر الأول من ولادتهم، بسبب الفقر والأمراض.

3- ذكر تقرير التنمية البشرية أن أكثر من ثمانمائة وخمسين مليون إنسان ثلثهم من الأطفال، في عمر ما قبل الدراسة، واقعون في فخ الدائرة المفزعة لسوء التغذية ومضاعفاتها.

4- أعلنت منظمة أطباء العالم غير الحكومية، أن مليوني طفل لقوا مصرعهم في النزاعات المسلحة التي اندلعت خلال فترة التسعينات وأضافت أن خمسة إلى ستة ملايين طفل جرحوا أو أصيبوا بعاهات مستديمة.

5- جاء في تقرير التنمية البشرية لعام 2005م، أنه ما زال في العالم حتى اليوم ثمانمائة مليون إنسان من بينهم نحو مئة وخمسة عشر مليون طفلً يفتقرون إلى المهارات الأساسية في القراءة والكتابة.

6- ذكر تقرير التنمية البشرية، أن عدد المصابين بالإيدز (نقص المناعة المكتسب) بلغ أربعين مليون شخص عام 2005م، وقد قتل الإيدز أكثر من خمسة وعشرين مليون شخص، منذ أن تم التعرف عليه لأول مرة عام 1981م، وحذرت الأمم المتحدة من احتمال وفاة أكثر من ثمانين مليون أفريقي بحلول عام 2025م.

7- كشف المعهد الدولي لأبحاث السلام، في تقريره السنوي، عن أن حجم النفقات العسكرية العالمية تجاوز سنة 2004م ألفاً وخمسة وثلاثين مليار دولار.

كانت الدكتورة سارة وهي تسرد هذه الأرقام، في محاضرتها، تبادل المستمعين لها بذهول نظرات تصاحبها بعض إشارات تدل بوضوح على حجم الأسى والحزن، والعجز أيضاً الذي يشعر به جميع من في القاعة، وبعد انتهاء المحاضرة خيم الصمت على القاعة، إلاَّ من بعض عباراتٍ دعت إليها المجاملات، وكأن لسان حال الجميع يقول، والصمت إن ضاق الكلام أوسع.

مزَّق الصمتَ صوتٌ من آخر القاعة، يخاطب د.سارة وهي تغادر المكان، قائلاً: ما العمل ؟ وما الطريقة المثلى التي يمكن أن تسهم في إيقاظ البشرية من غفلتها، ثم إنقاذها من هذا التردي المدمر لها ؟ ما دور أصحاب الأقلام المستقيمة، والذين لا يملكون غيرها ؟ بل ما دورك أنتِ بعد أن ألقيت هذه المحاضرة، وما تضمنته من أرقام مذهلة، بل مخجلة، تعد سُبة في جبين هذه البشرية التائهة.

ما أن انتهى هذا المتكلم من حديثه، حتى تداخلت عبارات الحاضرين، واختلط بعضها ببعض، فهمت منها د. سارة بشيء من الصعوبة، أن جميع من في القاعة يحملون الشعور نفسه، الذي عبَّر عنه الشخص الذي تكلم، فسرها كثيراً ما سمعت، وجعلها تتريث قليلاً في الخروج، ثم توجهت إلى الحاضرين بقولها، أقدر لكم شعوركم، وأشكر لكم تفاعلكم.

ولقد ذكَّرني موقفكم هذا بقناعة وجدتها عند غير واحد من علماء الاجتماع، مفادها أن البشرية تميل إلى حب الفضائل، وتكره الرذائل، وتنفر منها، ما دامت بعيدة عن التأثيرات الخارجية، التي تلعب بعقول الناس، في كثير من المواطن.

وعدت قبل خروجها، بأنها ستعنى بما سمعت من طروحات وأسئلة، وقالت أرجو أن يتضمن الموسم الثقافي القادم، والذي اقترب موعده موضوعات تكون ذات صلة بهذه الطروحات، ولعلها تحمل بعض إجابات لما قيل ويقال في هذا المجال.

مضى شهر، أو يزيد، وإذا بصحيفة الجامعة تصدر، وهي تحمل خبراً جاء فيه، د. سارة آدم تحاضر في سيرة عظماء البشرية، وأثر هذه السير في نشر الثقافة الأخلاقية بين الإنسانية، بخاصة صُنَّاع القرار منهم، وأصحاب الفكر المؤثرون في مجتمعاتهم.

ترى د. سارة أن الحظ حالفها، حين تأخر الموسم الثقافي في الجامعة، عدة أسابيع عن موعده المقرر، وترى أنه حالفها الحظ مرة أخرى، حين أعطيت في هذا الموسم محاضرات تزيد عما كانت تأخذه في العادة، بسبب اعتذار بعض الأساتذة عن عدم المشاركة، لأسباب متعددة.

بدأت محاضرتها الأولى، بالحديث عن المسوغات التي دعتها إلى دراسة سير العظماء، وذكرت الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، من خلال هذه الدراسات، فقالت :

سبقت الإشارة في محاضرة ألقيتها منذ عدة أسابيع، ربما يكون بعضكم قد حضرها، أو قرأ عنها، إلى أن البشرية تعيش أسوأ أيامها، وأحط أحوالها، شهدت بهذا أرقام ذكرنا بعضها، سوف توزع عليكم في ورقة مستقلة، فلا داعي لإعادتها، وآمل أن تضاف إلى محاضرات هذا الموسم، لأنها بصراحة كانت من أبرز أسباب اختيار هذا الموضوع، وأعرضنا عن كثير منها، والواقع المشاهد، يؤكد أننا لا نهول من الأمور، ولا نتبع الأوهام.

إن وسائل الإعلام، لا تكاد تحمل لنا إلاَّ تزايد أعداد القتلى، والمشردين، وارتفاع نسب البطالة، واتساع دوائر النزاع، وانتشار الأمراض القاتلة، وازدياد أعداد الفقراء، وتنوع صور الاعتداءات على الإنسانية بكل فئاتها، وعلى البيئة بكل ميادينها، وهو ما يهدد أصل وجود البشرية برمتها.

في ظروف كهذه، غاية في الخطورة، تدعو الحاجة، والضرورة، إلى استحضار سير بعض عظماء البشرية، لتعريف الناس بهم، واطلاعهم على سيرهم الشخصية، ونشر تعاليمهم بين الناس، وهذا في اعتقادي، سوف يسهم في الترويج للأخلاق الفاضلة، وفي التنفير من الأخلاق السيئة.

هذا المسلك، يعد خطوة في الاتجاه الصحيح، نحو محاصرة الشر وأهله، ومطاردة صنَّاع المشاكل، العابثين بمصير البشرية وبأمنها، وبمقدراتها، وهي لا تعدو أن تكون خطوة في رحلة الألف ميل، ولكن لها أهميتها، لأنها في الاتجاه الصحيح .

نحن نتفق مع الرأي القائل، إن العظماء قليلون، مهما كثروا، وهذا يعين على تتبع سيرهم لأنهم ندرة ونخبة، ومن كانت هذه حالهم فينبغي أن يكونوا محل عناية، بخاصة في وقت تحتاج فيه البشرية إلى تراثهم الأخلاقي، وتجاربهم التي نجحت في ميادين متعددة .

إذا أضيف إلى هذا، ما ذكر سابقاً من أن الناس بطبعهم أخيار يميلون إلى الفضائل، ويحبون رموزها الذين تميزوا بها، ترجح لدى الباحثين أن في هذه الدراسات خيراً كثيراً للبشرية.

يتضح الأثر الطيب لها في صورة جليَّة، حين يُقدم لهذه البشرية المرهقة نماذج حيَّة لأشخاص مارسوا الأخلاق، وجعلوا منها ومن الفضائل واقعاً معاشاً، وسلوكاً ممكناً، في دنيا الواقع، والبشرية بلا ريب بحاجة إلى مثل هذا التوجيه، بعدما أصاب كثيراً من جوانب حياتها التشويه.

نحن لا ننكر أن سيرة العظماء في تاريخ البشرية، لحقها بعض إساءات، مقصودة كانت أو غير مقصودة، لأسباب منها الجهل بها أحياناً، وربما التجاهل لها حيناً لأغراض لا يتسع المقام لسردها، أعتقد أن هربرت أ. شيللر أتى على بعض منها في كتابه المتلاعبون بالعقول، وإن لم يكن بطريقة مباشرة.

لقد أحسن الأستاذ العقاد حين شخَّص الداء ووصف الدواء بقوله: (إن البشرية بقدر اجترائها على هؤلاء العظماء، بقدر حاجتها إليهم)(1).

على عادتها في محاضراتها، بادرت د. سارة إلى الحديث عن بعض معالم المنهج الذي سوف تسلكه في دراساتها، وإن استدركت قائلة، كان ينبغي أن يكون هذا الكلام، في بداية المحاضرة لكن لا بأس بهذا، فما زلنا في بداية الطريق.

قالت د. سارة، لقد جمعت الكتب التي تتحدث عن سير هؤلاء العظماء، بخاصة كتب التاريخ، لأنني أتفق مع د. توماس كارليل صاحب كتاب الأبطال حين قال: (إن التاريخ سجل لسير أعمال العظماء)، وقد سعيت جاهدة لانتزاع الحقائق من هذا التاريخ ولا شيء غير الحقائق، لأضعها بين يدي القراء الكرام، ولهم بعدها أن يسلكوا مسلك المفكر العالمي د. نعوم تشومسكي، ويأخذوا بنصيحته إن شاءوا، حين قال بعد أن جمع كثيراً من الحقائق المفزعة: (لقد انتزعت هذه الحقائق من التاريخ، وعلى المرء أن يصرخ بها ويعلنها على رؤوس الأشهاد)(2).

إذا كان د. نعوم قد قلَّب صفحات التاريخ المعاصر، فوجد فيها حقائق مفزعة رهيبة، فها نحن نقلِّب صفحات التاريخ الماضي البعيد، بحثاً عن صفحات بيضاء مضيئة، وأحسب أننا واجدون فيها الكثير مما نؤمل.

فإن من رحمة الله تعالى بخلقه أن يقيم لهم معالم خير، ومنارات هداية، من خلال رموز بشرية نقية، إمَّا بأشخاصهم وقت وجودهم، وإما بما تركوا لنا من سير عطرة، وتراث جميل في رحلتهم الطويلة، بغية أن يذكِّروا الناس إذا نسوا، ويعينوهم إذا ذكروا.

كان مما قالته في هذه المحاضرة، لقد قرأت الكثير حول سير العظماء، ودونت أكثره حسب تقدمهم الزمني، لأن فضل السبق معتبر، فإن اللاحق غالباً ما يفيد من السابق، بخاصة في مجال علم الأخلاق، فالبشرية لا تكاد تختلف في شيء منها، وهي مما يتوارث بين أجيالها ، وأفرادها.

بعد استراحة لا تتجاوز دقائق معدودة، واصلت د. سارة حديثها بالقول :

منذ أسابيع، وأنا أبحث في المكتبات، وقنوات المعلومات الأخرى، في سيرة بوذا، باعتباره قديساً مشهوراً متقدماً في الزمن، معظماً لدى مئات الملايين من البشر في آسيا بخاصة، وقد عرفنا عنه زهده في الحياة، وصفاء نفسه.

يؤسفني القول إنه في ضوء المنهج الذي رسمته لنفسي في هذه المحاضرات ـ أنني عجزت عن جمع المعلومات الكافية، التي تمكنني من تقديم صورة واضحة المعالم لبوذا، ولتعاليمه على كثرة مطالعاتي وقراءاتي.

وحتى لا أتهم من أحد بالتكاسل، أو التحامل، فإني أود أن أذكر لكم أنه يشاركني الرأي في هذه النتيجة المؤسفة، علماء كبار، أو بتعبير أدق، أنا أشاركهم الرأي، لأنهم أسبق مني في بحث هذه المسألة.

هذا العلامة الأستاذ سلمان الندوي، كبير علماء الهند، في القرن الماضي، يعترف بعد بحث طويل، في سيرة بوذا، بالعجز عن الحصول على معلومات عنه، فيقول متسائلاً: (هل يقيم التاريخ وزناً لوجود بوذا ؟ وهل يقدر مؤلف على أن يعرض للناس صورة حقيقية لتاريخه؟ وهل يستطيع كاتب، أن يصف ظروفه، وأحواله التي كان عليها في حياته، وصفاً كاملاً، لا يغادر شيئاً من تحديد زمن ميلاده، ووطنه، وأصول دينه، كما دعا هو إليه، ومبادئ دعوته، وأهدافها؟

الذي نعلمه، أن ذلك كله محجوب عن علم الناس، بظلمات كثيفة متراكمة)(1).

ونراه في موضع آخر، يبدي أسفه، واستغرابه، لندرة المعلومات عن بوذا، فيقول: (أليس من المستغرب أن بوذا الذي يبلغ عدد المنتسبين إليه، ربع سكان المعمورة، لا يحفظ التاريخ من سيرته إلاَّ عدةَ أقاصيص، وحكايات، لو أننا نقدناها، بمقاييس التاريخ، لنتخذ لأنفسنا قدوة من حياته، وسيرته، لخرجنا من ذلك خاسرين)(2). والسبب في هذا ، وقفت عليه دائرة المعارف ، حين ذكرت، أن تاريخ بوذا أكثره من قبيل الحكايات(3) .



إذا كانت النتيجة، التي توصلتُ إليها، وآخرون قبلي، حول حياة بوذا، لا تخلو من جرأة في نظر البعض، فإن الجرأة الأكثر، والمفاجأة الأكبر، جاءت من قبل الأستاذ ر.ف بودلي، المؤرخ الإنجليزي المشهور ، الذي عمم هذا الحكم، ليشمل مع بوذا غيره من العظماء، وفي هذا يقول بودلي ما نصه: (إننا لا نجد ما دوَّنه معاصرو موسى، أو كونفوشيوس، أو بوذا، ولا نعرف إلاَّ بعض شذرات عن حياة المسيح، بعد رسالته)(4).
أنا لا أنكر أن رأي بودلي في حياة المسيح، وإن كان يبعث على الاستهجان، لدى كثيرين، إلاَّ أنه في الواقع له حظ من الصحة، وهو على أية حال، يبقى رأياً أقل غرابة




(1) المتلاعبون بالعقول، ص 7، د. هربرت أ. شيللر، ترجمة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة، الكويت 1999م.


(2) المتلاعبون بالعقول، ص 269، د. هربرت أ. شيللر، ترجمة عبد السلام رضوان ، 1999م، عالم المعرفة، الكويت.


(1) من مقال منشور في المجلة العربية للتربية، مجلد 3، عدد 2، ص 47، للدكتور رجاء جارودي.


(1) عبقرية محمد، ص 52، الأستاذ عباس العقاد، ط2، 1969م، دار الفكر، بيروت


(2) الحادي عشر من أيلول ـ الإرهاب والإرهاب المضاد، ص 14، نعوم تشومسكي، ترجمة ريم منصور الأطرش، دار الفكر، ط1، 1424هـ.




(1) الرسالة المحمدية، ص 48، السيد سلمان الندوي، ط3، 1393هـ، مكتبة دار الفتح، دمشق.


(2) المصدر السابق ، ص 52.


(3) دائرة المعارف ، ج5، ص 658، المعلم بطرس البستاني، دار الفكر، بيروت.


(4) الرسول : حياة محمد، ص 6، ر. ف. بودلي ، ترجمة محمد فرج وعبد الحميد السحار، مكتبة مصر.



























































يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
السنهوري




عدد المساهمات : 2141
نقاط : 6186
النخبة : 0
تاريخ التسجيل : 15/06/2011

مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم   مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالجمعة يناير 27, 2012 2:29 pm

بإزاء الرأي الذي طرحه بعض علماء الأديان في أمريكا، والذي يتضمن جرأة قبيحة، حين أنكر هؤلاء أصل وجود المسيح عليه السلام، فاعتبروا أن كل ما ذُكر حوله هو من الأساطير، وأن ما ذُكر عنه إنما هو بقية من بقايا وثنية الروم، واليونان.

لم يقتصر الأمر على هذا الصنيع الشنيع، فقد استمر الجدال أشهراً حول وجود المسيح عليه السلام، في مجلة (روبن كورث)، التي تطبع في شيكاغو، ودار البحث عما إذا كان للمسيح وجود تاريخي، أم هو مما ابتدعته أوهام القدماء، من الأمم السالفة، واختلقته اختلاقاً (1).

زاد تقديري للدكتورة سارة ، وأعجبت بها كثيراً، حين سمعتها تقول بكل قوة وثبات، ليس من شك قط، أننا نرفض بشدة هذا التجذيف، ونستنكر هذا التطاول، على مقام السيد المسيح، فإن وجوده ثابت ثبوت الشمس في كبد السماء، فقد تحدثت عنه الكتب المقدسة، وتبوأ فيها منزلة رفيعة، هو وأمه الصديقة. لا يطرح مسألة وجود المسيح إلاَّ جاحد معاند، وعابثٌ لا وَزْن له، ولا اعتبار في الميدان العلمي، وهذه الآراء، وأمثالها، أقل شأناً، من أن نضيِّع فيها وقتنا، وهو قصير وثمين.

بيد أني ـ أردفت د. سارة قائلة ـ لا أنكر إنصافاً للحقيقة، أن ثمة علامات استفهام كثيرة، في سيرة السيد المسيح، وهذا ما دفع بودلي نفسه ليقول كما أسلفنا (لا نعرف إلاَّ بعض شذرات عن حياة المسيح، بعد رسالته، ولا نعرف شيئاً عن الثلاثين سنة التي مهدت الطريق للسنوات الثلاث التي بلغ فيها أوجه)(2).

إن الناظر فيما كتب حول السيد المسيح ، يجد أن هذا الرأي لم ينفرد به بودلي، أو غيره، فإن هناك شبه إجماع عليه (فقد استفرغ العلامة ريتان جهده، ولقي من العناء، والتعب، مبلغاً عظيماً، ليقف على حياة عيسى كاملة تامة، ومع ذلك فإن شؤون عيسى عليه السلام، وأحواله لا تزال سراً مكنوناً، في ضمير الزمن، لم يبح به لسانه بعد)(1).

لا بد من التوضيح، أن هذا الذي تقدم، لا ينال بحال من مقام السيد المسيح ، فإن السيد المسيح عاش في بيئة معادية له، سواء من اليهود الذي لبث فيهم فكفروا به ، أو من الدولة الرومانية الوثنية ذات السلطة والسطوة التي قست عليه كثيراً.

توقفت الدكتورة سارة عن الحديث قليلاً، وهي تقلب أوراقاً بين يديها، كأنها تبحث عن شيء فيها، ثم رفعت ورقة، وهي تقول أخشى أن يكون من سوء حظنا، أو ربما من سوء حظ هؤلاء العظماء، أنه تعذر علينا الإلمام بسيرهم، والوقوف على كثير من تفاصيلها، أو حتى التأكد من وجود بعضهم أصلاً.

هذه الورقة التي ترونها، مصورة من دائرة المعارف، وهي تعد عند عامة الباحثين، من أوثق المصادر في التاريخ، تتضمن هذه الصفحة كلاماً عن زرادشت، وزرادشت هذا تحدثت عنه دائرة المعارف، فكان مما قالته عنه (يقال: إنه نبي المجوس، دعا إلى عبادة النار، والحكايات التي شاعت عنه كثيرة، وما عدا أنها بالغة في الغرابة، فهي متناقضة كمال التناقض.

لما شاخ اعتزل الناس في جبل البرزو، وبقي على عزلته حتى أدركته الوفاة )(2).

تحدثت عنه دائرة المعارف البريطانية أيضاً، فقالت: إن الأسطورة التي تشتمل على الحياة المستغربة لزرادشت، لا تدلنا على حياته دلالة واضحة، ولا تهدينا السبيل، إلى معرفته، معرفة تاريخية، بسبب ما نجد من غموض، لا ندرك معناه، وخُتم الكلام بالقول إننا لا نعلم زمن زرادشت البتة ونجهله جهلاً تاماً (3).

ختمت الدكتورة سارة محاضرتها، بالقول: لا أراني راغبة في الاسترسال بهذا الحديث، الذي ربما يبعث الأسى في النفوس، وهي تحاط بعشرات العلامات من الاستفهام، بشأن سير هؤلاء العظماء.

بودي أن اعتذر باسمي واسمكم جميعاً لهم، وأن أعاتب جهة ما، ولست بعالمة لمن العتاب، وفي النهاية لا يسعنا إلاَّ التسليم بهذه النتائج، والإقرار بتلك الحقائق.

لعل الزمن القادم يشهد فتح صفحات مطوية، ويكشف عن معلومات منسية، وإن كان التفاؤل في هذا الشأن قليلاً، إن لم يكن معدوماً، فقد مضى على وجودهم آلاف السنين، ولم نظفر إلاَّ بهذا النزر اليسير من المعلومات، فلو كان ثمة شيء لظهر.

ليس من شك في أن المعلومة الصحيحة ، والصحيحة فقط هي أساس البحث، فإن لم تتوافر بين أيدينا فإنه يتعذر علينا تقديم صورة واضحة المعالم لأية شخصية أياً كانت، ويصعب علينا أن نجعل منها مثلاً أعلى، وعلماً بها يُقتدى.

وقبل أن أغادركم، أقول لكم، وأنا أرى في وجوهكم الأسى، الذي أظن أن جزءاً منه لأجلي، وأنا شاكرة لكم هذا الشعور، أقول لكم تجمع بين يدي مقولات عديدة ، ومعلومات كثيرة متنوعة، عن واحد من عظماء البشرية، أحسب أننا سنجد فيه ضالتنا، ونحقق من خلال النظر في سيرته بغيتنا.

أضافت قائلة، ولكن هذا لا يعني بحال، المسارعة في إصدار الأحكام ، على الرغم من أني بت أطمئن لما توافر بين يديَّ من مادة علمية حول هذا الموضوع الذي يستدعي مزيداً من البحث وتتبع التفاصيل، والاجتهاد في التحليل، وأذكركم بأن الصبر جميل.

أشكر لكم حسن الاستماع، والصبر على هذه النصوص، حتى المحاضرة التالية، لكم مني خالص التحية.

ترقب المتابعون ما وعدت به د. سارة من جديد، وما ينتظر منها من تفصيل وتحليل، وافق أن استضافت الجامعة أستاذاً زائراً، ونظراً لضيق وقته، تنازلت له د. سارة عن موعد محاضرتها، تكريماً منها لهذا الأستاذ الزائر، وإن كان يرى بعض خواصها، أنها فرحت بما حدث، لتكسب مزيداً من الوقت، وقد كان لها ما أرادت.






المحاضرة الثانية


بوادر انفراج وكرم من التاريخ




أعلن عن موعد المحاضرة الجديد، وعن موضوعها. فكان:ـ الدكتورة سارة تحاضر عن النبي محمدٍ r في الموسم الثقافي للجامعة.

بدأت محاضرتها الثانية ، بعد الترحيب بالحضور وشكرهم، مخاطبة جموع الحاضرين، أعزائي الحضور الكرام، لقد اخترت النبي محمداً r ليكون موضوع محاضرتي في هذا الموسم، ثم أردفت قائلة كأني بكم تسألون لمَ الحديث عن النبي محمدٍ r ؟ ما المسوغات التي تميزه عمن مرَّ بنا ذكرهم في المحاضرة الماضية ؟

سمعت همسات، ورأت نظرات، من لدن الحاضرين، دلت بمجموعها على صدق حدسها وعلى حسن تعبيرها، وصواب تقديرها.

فابتدأت تقول بكل ثقة وطمأنينة: توافر لدي من خلال البحث، أربع حقائق، تحمل بمجموعها إجابات شافية عن الأسئلة الماضية. فيما يبدو لي، والحكم إليكم، بعد الاستماع إليها.

أولها : توافر المعلومات التفصيلية، الصحيحة عن حياة النبي محمد r في مراحل حياته جميعها، فليست في هذه السيرة التي استمرت ثلاثة وستين عاماً حلقة مفقودة، وليس فيها كذلك أي من علامات الاستفهام، التي مرت بنا عند الحديث عن بعض من سبقه من العظماء.

لقد اتفق كل من قرأ في سيرته، بإنصاف ـ وأنا منهم ـ ،على أنه كتاب مفتوح، أمام أتباعه، وأعدائه، على حد سواء.

من أبرز مظاهر هذا الوصف، أن الباحث لا يكاد يجد علامة استفهام في سيرته كلها، وفي أخص خصائص النبي r، وأجدني مضطرة، في هذا المقام، أن أفتح فهرسَت أصغر كتاب، وقع في يدي، حول جانب من أخلاق النبي r لنقف وإياكم على بعض ما احتواه من تفصيلات، أعترف أمامكم بأنني كدت أمل هذه التفصيلات، على الرغم من اتهامكم لي أنني ممن أُعْنَى بها ,وأسعى إليها، هذا الكتاب هو أخلاق النبي r وآدابه، تأليف جعفر بن حيان الأصفهاني، المتوفى سنة 369هـ، الموافق 952م تقريباً.

تضمن هذا الكتاب، وصفاً دقيقاً لجميع قطع ملابس النبي محمد r، ووصفاً لجميع الأدوات التي كان يستعملها، ووصفاً دقيقاً لطريقة أكله، وشربه، ونومه، ودخوله، وخروجه، وجلوسه، وكلامه، وضحكه، وبكائه، وحواره وتعامله مع الناس.

وكذلك تضمن وصفاً دقيقاً مفصلاً لجميع أعضاء جسمه الظاهرة لأصحابه، وتضمن حديثاً عن الحيوانات التي كان يركبها، وأسماء هذه الحيوانات، وغير ذلك مما لا يتسع المقام له.

لم ينفرد بهذه المعلومة كتاب أو كتابان، بل إنها تكررت في مئات الكتب الموثوقة والمشهود لأصحابها بالمنهجية العلمية والصدق والنزاهة، وهذه دعوة مني بهذه المناسبة، لمن يرغب في الاطلاع، أن يقرأ في بعض هذه الكتب، وهو ما يؤكد بحق أننا أمام شخصية تُعد كتاباً مفتوحاً بكل صفحاته.

ويحسن في هذا المقام أن أستعين ببعض شهادات لمن سبقني بالكتابة عن النبي محمد r، فقد قال ر. ف بودلي الباحث الإنجليزي المعاصر: (إننا نجد أن قصة محمد واضحة كل الوضوح)(1).

فقد قال التاريخ في سيرة النبي r كلمته، بعيداً عن الأساطير، والتزوير، واستأنس في هذا الموطن بقول للأستاذ كلود كاهن، أستاذ التاريخ الإسلامي، في جامعة باريس، حين قال: (اصطبغت شخصية محمد بصبغة تاريخية، قد لا تجدها عند أي مؤسس آخر من مؤسسي الديانات الأخرى)(1).

لقد عاش النبي محمد r في مكة، ما يزيد على خمسين عاماً، وهي الشطر الأكبر من حياته، وكان أعداؤه فيها أضعاف أتباعه بكثير، ولم يجرؤ أحد من أعدائه أن يشكك في شيء مما تضمنته صفحات حياته، أو يدعي أحدهم أن في حياته صفحات غير واضحة.

سجل التاريخ محاورة مشهورة جرت بين أبي سفيان زعيم مكة خصم النبي محمدr المشهور قبل أن يُسلم، وبين هرقل عظيم الروم، لم يستطع أبو سفيان، أن يزوِّر فيها شيئاً من الحقائق، أو يغيِّر فيها بعض المعلومات، خشية أن يسجل عليه التاريخ أنه كذب أمام هرقل عظيم الروم (2). لأن سيرة محمد r الحميدة ، كانت أشهر من أن تحرف، أو يتستر عليها.

ثانيها : كثرة الكتب، التي ألفت في سيرته، على مدى 1400 عام، فإنها تعد بالمئات. ويمكن لأي شخص، أن يستعين بقاعدة البيانات الموجودة في الجامعة، ويستخدم الطرفيات المرتبطة ببعض الجامعات الأخرى، ليتأكد بنفسه من صحة هذه المعلومة، وقد يصل الرقم معه إلى خانة الآلاف، إذا تحلى بالصبر وحرص على الاستقصاء، وإذا كنت لم أَجزم بعددها لأني لا أملك معلومات موثقة، فإني أنقل لكم ما ذكره المؤرخ الكبير ول ديورانت ، فقد قال في كتابه قصة الحضارة: (إن ما يروى عن محمد من القصص ، قد ملأ عشرة آلاف مجلد )(3).

سوف يجد، المتتبع لهذه المؤلفات، أنها كتبت في أزمنة مختلفة، وفي بيئات مختلفة، ومن أشخاص مختلفين، وبمناهج مختلفة، ولكنها تكاد تجمع كلها، على ما تضمنته من معلومات.

وإن كان من خلاف بينها، فهو في الصياغة، وفي الإيجاز، والإطناب، وفي التحليل، وموقف المؤلف من هذه المعلومات، وهي مسألة اجتهادية لا إشكال فيها غالباً.

ثالثها : كثرة أتباعه، المحيطين به، فقد ذكرت لنا الكتب المعتمدة، في علم الرجال، والتي تلقاها الناس بالقبول، أنه صاحب النبي محمداً r قرابة عشرة آلاف صحابي، وهم ولا شك متفاوتون في هذه الصحبة، من حيث مدتها ، وطبيعتها.

لقد كان من حسن الحظ، أن أنس بن مالك t، الذي خدم النبي r عشر سنوات متواصلات، كان آخر أصحابه موتاً، فقد ثبت أنه مات سنة 93هـ ، فيكون قد عاش بعد وفاة الرسول r قرابة 80 سنة، كما أن زوجته السيدة عائشة أكثر الناس قرباً منه، عاشت بعد النبي r قرابة 45 سنة، فإنها توفيت سنة 58 هـ.

وكذلك ابن عمه عبد الله بن عباس t، وكان مقرباً منه، فقد عاش بعد النبيr 55 سنة، فقد توفى سنة 68هـ ، وغير هؤلاء كثير، فقد أتيحت لهم الفرصة لينقلوا عن النبي r كل ما حفظوه عنه، ورأوه منه، هم وغيرهم، ممن تجاوز عددهم الآلاف.

مما لا شك فيه، أنه كان حوله أعداد كبيرة جداً، يرقبون كل صغيرة وكبيرة في سيرته، حتى في أخص خصائص الرجل مع زوجته، فقد نقلت لنا زوجات النبي محمد r كيفية غسله بعد لقاء زوجاته، وكيفية نومه.

لقد نقلت هذه التفصيلات بأحاديث ذات أسانيد متصلة موثوقة، كان لها الفضل في إزالة أية علامات استفهام .

وقف على هذه الحقيقة، أستاذ الحضارة الإسلامية، الأستاذ هاملتون جب، فقال: (لولا الحديث لأصبح لمحمد في أقل تقدير صورة معممة ـ إن لم نقل بعيدة ـ في أصولها التاريخية، والدينية، أما الحديث فقد صور وجوده الإنساني، في مجموعة وفيرة من التفصيلات الحية المحسوسة)(1).

وهو ما دفع أيضاً الباحث لورا فينسيا فاغليري إلى القول، وهو يتحدث عن الحالة الاجتماعية للأنبياء: (يبدو أننا لا نعرف تفاصيل الحياة اليومية، لموسى، وعيسى، على حين نعرف كل شيء عن حياة محمد العائلية)(2).

وهذا مونته أستاذ اللغات الشرقية، في جامعة جنيف، يدلي بشهادة مماثلة فيقول: (ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثل محمد )(3).

إن مما يعين على تقبل هذه المعلومات، والثقة بها، أنه نقلها غير واحد، وفي ظروف مختلفة، في ضوء علم الإسناد، وعلم نقد الرجال، الذي لم تعرف البشرية لهما مثيلاً.

وأنا لا أزعم أن لدي إلماماً واسعاً بهذين العلمين، ولكن المطلع على معالم هذين العلمين، يقف مذهولاً أمام هذه الدقة والحيادية التي تميز بها، واضعو هذين العلمين.

ويحسن التذكير في هذا المقام أن العرب وهي الأمة التي ينتمي إليها النبي محمد r، مشهود لها بقوة الحفظ بين الأمم، وهذا على سبيل المثال المؤرخ الكبير جورجي زيدان، يشهد للعرب بقوة الحافظة، ويقول إنهم حفظوا إلى جانب أخبارهم، أخبار الأمم السابقة لهم، كأخبار قوم عاد، وقوم ثمود (1)، فكيف بأخبار نبيهم محمد r الذي أحبهم وأحبوه، حباً لا يعرف التاريخ له مثيلاً.

رابعها : أن النبي محمداً r وضع لأتباعه منهجاً علمياً، دقيقاً، في نقل المعلومات، فقد حذَّر من الكذب، بخاصة في نقل الأخبار عنه، فقال لأصحابه (من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار)(2)، وهذا وعيد شديد، وتوجيه سديد، من النبي r لأتباعه، لتوخي الدقة في نقل المعلومات، والاعتماد على ما ثبت منها، دون ما كان من باب الظنون التي حذَّر منها أيضاً . فقال (إن الظن أكذب الحديث)(3).

بقيت أيها الأعزاء، حقيقة خامسة يكتمل بها عقد هذه المسوغات، تلكم هي طبيعة سيرة النبي محمد r، فإن الناظر في صفحات هذه السيرة، يرى فيها الواقعية، ماثلة للعيان، يسهل على أي إنسان تفهمها، وقبولها، والتخلق بها، إن شاء دونما شعور بحرج، أو معاكسة لفطرة، كما هو حاصل ومشاهد مع مئات الملايين من المسلمين أتباع النبي محمد r.

في حين أن هذا يتعذر على أتباع بوذا مثلاً، وهم يعدون بمئات الملايين، فإن من المعلومات القليلة التي وصلتنا عن بوذا، أنه كان أميراً يعيش في قصر، ولديه زوجة، وولد، فهجر قصره، وترك زوجته وحيدة، وترك ابنه كذلك، وهام على وجهه في الصحارى، والغابات، إلى أن مات زاهداً وحيداً (4).
هل تنتشر ثقافة الزهد هذه التي ارتضاها بوذا لنفسه، بين تلك الشعوب التي تؤمن به، وهم الصينيون، واليابانيون، والكوريون، لقد أقاموا دولاً صناعية عملاقة




(1) الرسالة المحمدية، ص 51، سلمان الندوي، مكتبة دار الفتح، ط، 1973م، دمشق


(2) الرسول حياة محمد، ص 6، ر. ف . بودلي، مرجع سابق


(1) الرسالة المحمدية، ص 57، سلمان الندوي، مرجع سابق


(2) دائرة المعارف، ج9، ص198، المعلم بطرس البستاني، دار المعرفة، بيروت .


(3) دائرة المعارف البريطانية، ج، ص 193.


(1) الرسول حياة محمد، ص 6، ر. ف . بودلي، مرجع سابق .


(1) تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، ج1، ص 40، كلود كاهن.


(2) لمزيد من التفصيلات حول هذه المحاورة المشهورة ينظر صحيح البخاري ، باب كيف كان بدء الوحي للنبي، ح 7.


(3) قصة الحضارة، ج13، ص 22، لول ديورانت.


(1) الرسول في عيون غربية منصفة، ص 146، نقلاً عن كتاب دراسات في حضارة الإسلام ، ص 257، هاملتون جب.


(2) الرسول في عيون غربية منصفة، ص 139.


(3) الإسلام والحضارة الغربية ، ج1، ص 67، محمد كرد علي ، نقلاً عن كتاب حاضر الإسلام ومستقبله، تأليف مونته.


(1) التمدن الإسلامي، ج1، ص 22، جورجي زيدان.


(2) رواه البخاري، باب إثم من كذب على النبي r الحديث رقم 107.


(3) رواه البخاري، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، الحديث رقم 4064.


(4) انظر دائرة المعارف، ج5، ص 660، مرجع سابق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
السنهوري




عدد المساهمات : 2141
نقاط : 6186
النخبة : 0
تاريخ التسجيل : 15/06/2011

مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم   مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالجمعة يناير 27, 2012 2:31 pm

مما يعني أن لا أحد منهم تقريباً يفكر في إحياء هذا المبدأ، أو حتى مجرد التفكير به، وهم على صواب ولا شك، لأنها مبادئ يؤدي اتباعها إلى تعطيل الحياة، والعودة بالبشرية إلى القرون البدائية.

لقد وقفت على عبارة نقلت عن بوذا، لا أود أن يسمعها مني أتباعه في هذه الدول الصناعية الكبرى دفعاً للإحراج، يقول فيها بوذا (شريعتي نعمة للجميع، فهي كالسماء فيها مكان لكل الناس إلا أنه يعسر على الغني أن يسلك طريقها)(1).

كما اشتهر عن السيد المسيح، دعوته إلى التسامح، والعفو، والحلم، فقد نقل عنه، قوله وهو يعظ أتباعه (سمعتم أنه قيل عين بعين، وسن بسن، وأما أنا، فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحوِّل له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك، ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخَّرك ميلاً واحداً، فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.

سمعتم أنه قيل: تحب قريبك، وتبغض عدوك، وأما أنا، فأقول لكم: (أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم، ويطردونكم) (2).

ابتسمت الدكتورة سارة ابتسامة صفراء، كما يقال، ثم سألت الحاضرين، أي من الدول الغربية أو الشرقية، بلا استثناء ـ تلتفت إلى هذه التعاليم، أو تفكر في يوم من الأيام بالعمل بجزئية منها، ولو مرة واحدة في تاريخها الطويل، بخاصة مع خصومها، سؤال يوجه إلى التاريخ القديم والحديث ليجيب عنه ، أما نحن فنمضي في محاضرتنا.

أود أن أوضح بهذه المناسبة، أن تعاليم المسيح هذه، لا تعيبه، ولا ينبغي لأحد أن يوجه إليه نقداً بسببها، كلا وألف كلا، لأنها صدرت عن المسيح في ظروف خاصة، ولمعالجة أوضاع خاصة، فهي تعاليم تعد بنت بيئتها، وقد نجحت في حينها، من الحد من سطوة الظلم، والانتقام، وفي محاصرة الشر في بني إسرائيل، الذين بعث فيهم المسيح .

كما حاول المسيح، أن يوجد توازناً في المجتمع الروماني، الذي عاش فيه، إذ إن ثقافة هذا المجتمع كانت تعنى بالجسد فقط على حساب العاطفة، فقد كانت ثقافته حربية دموية، وهو ما دفع السيد المسيح إلى أن يسلك هذا المسلك، الذي كانت الأوضاع تدعو إليه بشدة، ولهذا لم يستوعب أتباع السيد المسيح هذه التعاليم، وتعذر عليهم العمل بها.

لقد قرأت كلاماً مفيداً، في هذا المقام، يحسن بي أن أتلوه على مسامعكم، وهو للعلامة محمد جميل بيهم، جاء فيه: (لما تفاقمت الفوضى الأخلاقية، قبل ظهور المسيح، واستفحل أمرها من جراء الفساد، الذي شمل الشعب اليهودي والروماني على حد سواء

جاء المسيح مُصلحاً اجتماعياً لا مشرعاً لأن اليهود والرومان لم يكن ينقصهم تشريع، ولهذا اقتصرت دعوته بالحث على الفضائل والتحذير من الرذائل، وحضهم على المحبة والسلام)(1).

أعجبني كلام يناسب هذا المقام أيضاً، ورد عن العلامة الأستاذ سليمان الندوي، حين قسَّم الفضائل قسمين، قسماً سلبياً، وقسماً إيجابياً (2).

فقال: إن اعتزال الناس خلق سلبي، لأن صاحبه لا يؤذي أحداً منهم، ولكنه لا يقدم لهم خيراً، كما أن العفو عن أخطاء الناس خلق سلبي كذلك، فإنه لا يتضمن خيراً، كالنصح، ونصرة المظلوم، وهو ما يبدو في الأخلاق التي وردت عن كثير من المصلحين السابقين للنبي محمد r .

وهي في الحقيقة،أخلاق تفتقد للشمول، والتوازن، وهما ميزتان ظاهرتان في أخلاق النبي محمد r، وهو ما سأعرض له بعد استراحة قصيرة جداً.

لقد كانت د. سارة أكثر من رائعة، ألقت محاضرتها بكل ثقة، وثبات، وانشراح صدر، وكم كانت تبدو سعيدة، وهي تعرض هذه المعلومات.

وزاد من سرورها، شعورها بأن الحاضرين يبادلونها الشعور نفسه، وأكثر ما سرها، وأضحكها، قول أحد الحاضرين، وهو ممن لا يفوته شيء من المحاضرة كان يكفي يا دكتورة مسوغاً واحداً من هذه الخمسة التي سُقتيها، لبيان أهمية دراسة سيرة النبي محمد r، ولكن يبدو أنكِ حريصة على أن نتعب في الاستماع ونَطربْ في الاستمتاع ، على كل حال، أرجو أن تلتزمي بهذا المنهج، المرهق لنا والممتع على حد سواء ، وإلى اللقاء.

أجابته وهي تغادر القاعة لدقائق، سأعتبر أني لم اسمع كلمتي التعب والإرهاق، إلاَّ إذا كنت تقصد بهما معنى آخر.

بدأت الدكتورة سارة حديثها، بعد الاستراحة، قائلة:

بدت لي ظاهرةٌ ذكرت طرفاً منها قبل قليل، وهي تميز العظماء الذين تعرفنا عليهم بميزة واحدة لكل منهم، بها عُرف، ومن أجلها احترمه الناس، ومنها جاءت شهرته. فالمسيح كان متسامحاً، وبوذا كان زاهداً، والإسكندر المقدوني كان قوياً، وأرسطو كان فيلسوفاً، ولم يعرف أن أحداً منهم برز في صفة أخرى.

بيد أن ما يسترعي الانتباه بحق، هو اجتماع هذه الفضائل كلها في شخص النبي محمد r وغيرها كذلك.

إن من ينظر في سيرة هذا النبي، ويقلب صفحات سيرته، لن يعجز عن الحصول على أدلة قاطعة، تؤكد هذه الحقيقة ، وقد توصلت إليها بعد قراءات كثيرة متنوعة، حرصت قبلها أن أكون خالية الذهن، في حدود الإمكان، انحيازاً مني للمعلومة الصحيحة.

كان النبي محمد r أشجع الناس، وأكثرهم حلماً، وكان أكرم الناس، وأكثرهم زهداً، وكان رحيماً، عادلاً، عفوَّاً، صادقاً، عفيفاً، أميناً، وكان مهيباً، وكثير التبسم، متواضعاً، وكان صلباً في الحق، وفي الوقت ذاته أشد حياءً من فتاة بريئة.

إن نظرة تأملية تحليلية لهذه الأخلاق، التي اجتمعت في شخصية النبي محمدr تبين بجلاء، أن العظمة إنما تكون حين تجتمع الأخلاق كلها في شخص واحد، لأن القيم المجزأة، لا يمكنها أن تصنع عظيماً، ولا أن تسهم في سعادة البشرية.

ترجح لديَّ هذا الفهم أيضاً، حين استحضرت ما ذهب إليه بعض علماء الأخلاق، (من أن كل خلق يقوى بغيره من الأخلاق)(1).

عندما يتحقق هذا في شخصية ما ـ وقد تحقق في النبي محمد r ـ يبرز من بين هذه الأخلاق، خلق يعرف به الشخص أكثر من غيره، وهذه حقيقة أقرها علم الأخلاق أيضاً، وفي هذا يقول العلامة دراز: (إنه يجب أن تمارس النفس الإنسانية جميع القيم، قبل أن تتخصص في واحدة من بينها)(2)، دون أن يطغى هذا الخلق على غيره من الأخلاق الأخرى فيضعف أثره، ويقلل مكانته حتى تبقى كلها في أعلى درجاتها، وأكمل أوصافها.

توقفت الدكتورة سارة عن الحديث قليلاً، ثم قالت، كنت حريصةً، وما زلت، على أن تكون محاضراتي هذه أسهل طرحاً، وأيسر تناولاً، من تلك المحاضرات الأكاديمية في قاعة التدريس، ولكن يبدو أحياناً، أن الخيار لا يكون لنا، وإنما لطبيعة الموضوع، ولكن أعدكم أني سأكثر فيها من القصص الواقعية، والأحداث الثابتة الشيقة.

وإذا كان الأمر كذلك، وهو على ما يبدو كذلك في بعض المواطن على أقل تقدير، فإني سأجتهد في اختصار هذه المحاضرة، حتى لا ينُسي بعضها بعضاً، وأختمها بالحديث عن مسألة مهمة، لها صلة بموضوعنا، وإن كنت لن أطيل فيها، تلكم هي الدوافع الكامنة وراء التخلق بالأخلاق الحميدة.

لقد بحث علماء الأخلاق هذا الموضوع، وكان مجمل قولهم في هذه الدوافع، إنها المنفعة المادية، أو السعادة الشخصية، أو البيئة، أو الضمير، أو القوة(1).

لا أود أن أناقش، هذه الدوافع، من حيث قيمتها، وأثرها، وهل هي دوافع مضطردة، أو لا؟ بيد أني أحسب أن الدافع الكامن وراء تخلق النبي محمد r بكل هذه الأخلاق التي سبق عرضها بإيجاز هو النبوة.

ذلك أن الله تعالى، يتصف بصفات الكمال، كالرحمة، والكرم، والرأفة، والعزة، والمغفرة. والنبي r أكثر الناس تخلقاً بأخلاق الله تعالى . فالخلق النبوي لا اعتبار فيه لأمر دنيوي، كمنفعة شخصية، أو تأثر ببيئة، أو تغير أحوال.

ولقد أدرك ر. ف . بودلي هذه الحقيقة، دون أن يذكر سببها، حين قال: (أشك فيما إذا كان هناك رجل غير محمد تبدلت أحواله الخارجية، ذلك التبدل العظيم، ولم تتبدل نفسه)(2).

يسهل تفهم هذا الثبات، حين نستحضر أن هذه العظمة بكل مظاهرها، هي من فيض النبوة، فإننا وإن كنا نقر ونعترف، بأن النبي محمداً r كان قبل النبوة إنساناً نبيلاً، ذا أخلاق كريمة، سامية، إلاَّ أن بروز عظمته، المتمثلة في اجتماع كل الأخلاق الفاضلة في شخصه بتوازن فريد من نوعه، كانت بسبب النبوة، كما أسلفنا.

لعل هذا الذي تقدم، يفسر لنا أيضاً، لمَ كانت أخلاق النبي محمد r أخلاقاً باقية، دائمة على مر الدهور، حاضرة في كل زمان، صالحة لكل مكان، فهي لم تكن للعصر الذي نشأت فيه، ولم تختص بالفئات التي كانت تعنيها أول الأمر، ولم تكن وليدة بيئة النبي r .

كان النبي محمد r يمارس هذه الأخلاق بأفعاله، أكثر من أقواله، وهو ما جعلها قريبة من الناس، مألوفة لديهم، ممكنة التطبيق.

أذنت الدكتورة باستراحة قصيرة، ثم واصلت بعدها الحديث ، قائلةً: وقد رأت وجوهاً جديدة في القاعة، لعلها لم تتنبه لها في بداية المحاضرة، أشكر الحضور الكرام على هذا التواصل، وعلى صبرهم كذلك، واسمحوا لي أن أخص بالترحيب وجوهاً جديدة، كأني أراها أول مرة، إن لم أكن مخطئة.

في الوقت الذي أرحب فيه بهم، أود أن الفت انتباههم، بأن محاضراتنا هذه، مثل سلسلة مترابطة، لهذا قد يتعذر على من حضر بعضها، أن يخرج بتصور متكامل، عن الموضوع الذي نعرض له، وعلى أية حال، فأحسب أنه يمكن تدارك هذا الأمر، بوسائل عدة.

صمتت الدكتورة قليلاً وابتسمت في وجوه الحاضرين، قائلة لا أخفي عليكم أني أفكر في أن أضع هذه الأوراق التي بين يدي بين أيديكم، أو على أقل تقديرـ تلك التي تتضمن نصوصاً، أو أرقاماً، فتحركت القاعة فرحاً بهذه البشرى، فاستدركت، قائلة، ولكن هذا لا يعني بحال ترك المتابعة، والتدوين، وهو أمر اختياري ولا شك، وهذا لا يخفى عليكم طبعاً.

أعزائي الحضور الكرام ..

تأملت كثيراً، الأخلاق التي عُرف بها النبي r، وعُرفت به أيضاً، فوجدتها كما ذكرت لكم كثيرة، فليس ثمة خلق حسن، إلاَّ وله فيه الحظ الأوفر، وربما سبب لي هذا الاستنتاج بعض مشقة، لأني أميل إلى تسليط الضوء على الخلق الذي تميز به النبي r، من بين سائر الأخلاق، مع إقرارنا في محاضرة سابقة، بأنه تميز فيها كلها، ولكن أعني هنا، الخلق الذي كان أكثر ظهوراً من غيره.

وإن سأل سائل منكم، لمَ البحث عن خلق واحد، لينصب الحديث عليه، أقول له ولكم، إن منهجنا يقوم على تتبع المعلومات، وتوثيقها، وتحليلها، وهذا يستنفد كثير جهد، وطويل وقت، فيتعذر والحالة هذه، دراسة الصفات جميعها للنبي محمد r، ثم إن هدف هذه المحاضرات، هو السعي إلى تحديد صفة معينة إن أمكن ، إذا ذكرت ذكر النبي محمد r، وإذا ذكر هو ذكرت هي أيضاً.

لقد كان لديَّ شعور ـ استناداً إلى ما عرضناه في المحاضرة الماضية ـ أني سأظفر بهذه الصفة، ويسرني، إبلاغكم بأنه تحقق لي ما أردت، كما بدا لي. فقد كانت هذه الصفة، هي صفة الرحمة، هذه الصفة التي رأيت مظاهرها بارزة على البشرية قديماً وحديثاً ، فهو الخلق الذي امتاز به النبي محمد r ، وهو الخلق الذي كانت من آثاره أكثر الأخلاق الأخرى. وإليكم مزيداً من التفصيل، والتحليل، وآمل أن لا أثقل عليكم.

سلكت ثلاثة مسالك للبحث عن هذا الخلق والوصول إليه، وتحديده من بين الأخلاق الأخرى وهي:

الأول : النظر المتأمل في القرآن الكريم، وكنت أحسب أني سأجد فيه بغيتي، وما خاب ظني، فقد وصف الله تعالى نفسه في القرآن، بهذه الصفة في آيات كثيرة، واشتق الله من هذه الصفة اسمين له سبحانه، وردا في آيات منها ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ [الفاتحة: ٢]، ومنها ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ [البقرة: ١٤٣]، ومنها
ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
[الكهف: ٥٨].

حيث أثبت الله تعالى لنفسه، صفة الرحمة، وسمى نفسه بالرحمن الرحيم، تفضلاً على الناس ورحمة بهم، فأنزل إليهم ديناً وصفة الله بأنه رحمة بهم، في قوله تعالى: ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ [الزخرف: 32].

قال غير واحد، من مفسري القرآن، إن الرحمة هنا هي النبوة، والوحي، وكذا في قوله تعالى: ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ )القصص: 86 (.

لا بأس أن أذكر قول واحد من هؤلاء المفسرين لنطمئن إلى هذا الرأي، ونستأنس بقوله ، فقد قال المفسر العلامة الشنقيطي: (والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي ، وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن )(1).

وصف القرآن الكريم، بعد ذلك النبي محمداً r بهذه الصفة، كقوله تعالى:
ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ
[التوبة: 128]، بل إن الله جعل النبي محمداً r هو الرحمة بعينها في قوله تعالى: ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ [الأنبياء: 107].

ليس يخفى عليكم، بعد هذا العرض، ما بين هذه الأوصاف من تناسب مبهر، فالله الرحيم، أنزل ديناً كله رحمة بخلقه، فكان من البديهي جداً، أن يحمل هذا الدين، شخص رحيم، فكان النبي محمداً r.

لن ألوم أحداً، إذا نظر إلى بعض هذا الكلام، على أنه انطباعي عاطفي، فقد كنت قبل توافر هذه المعلومات التزم الحيادية، حين تطرح هذه القضايا، وكثيراً ما ألتزم الصمت، ما لم أضع بين يديَّ أدلة واضحة، تؤكد صحة ما أعتقد، وأرجو أن أوفق في هذه المهمة، ثم أترك لكل واحد منكم الحكم.

إن خلق الرحمة، هذا مناسب لتحقيق مراد الله تعالى، من إرسال الرسول بهذا الدين، فقد أرسله مفطوراً على الرحمة، فكان رحمة من الله بالأمة، في تنفيذ شريعته(1).

لقد لفت انتباهي، في هذا المقام، أن الله تعالى، لم يصف أحداً من أنبيائه بوصف الرحمة، إلاَّ النبي محمداً r، فقد تحدث القرآن عن أربعة وعشرين نبياً، ووصفهم بأجمل الأوصاف، وأكملها، وعظَّم شأنهم، في كل موضع ذكروا فيه، إلاَّ أن أحداً منهم، لم يوصف بهذه الصفة، على كثرة صفاتهم الحميدة.

أراد الله تعالى لحكمة، أن يخص النبي محمداً rبهذه الصفة ، دون أن يشاركه فيها أحد، مع أهمية التأكيد على أن أنبياء الله جميعاً، رحماء في تعاملهم مع أقوامهم، وفي حرصهم على إيمانهم، ولكن حديثي هنا عن الوصف بعينه.

المسلك الثاني: النظر في سيرة النبي محمد r ، وفي أقواله، وتوجيهاته، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الموضوع، في محاضرات قادمة، بيد أن ما أود قوله هنا، أن صفة الرحمة، كانت حاضرة في كل ما صدر عن النبي r، من قول، أو فعل، فهو الخلق الملازم لكل خلق، بل هو المهيمن عليه، والموجه له، ولقد كان النبي محمد r مستحضراً هذا الخلق، في كل حركاته، وسكناته، يؤكد هذا قوله عن نفسه: (إنما أنا رحمة مهداه)(2)، ولا أشك لحظة أنه كان يستحضر على الدوام قول الله تعالى له: ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ [الأنبياء: 107].

المسلك الثالث: وقد يبدو ظريفاً، نوعاً ما، ومختلفاً عما سبقه من مسالك، فقد كلفت طلاب إحدى الشعب التي أُدرِّس لها مقرر فلسفة الأخلاق، أن ينظروا في صفات النبي محمد r، ويحدد كل واحد منهم الصفة التي يظن أنها أكثر ظهوراً من غيرها.

كم كان سروري عظيماً، حين اختار قرابة 60% منهم صفة الرحمة، أما أولئك الذين اختاروا خلقاً آخر غير خلق الرحمة، كخلق التواضع، أو الإحسان إلى الآخرين، أو العفو عند المقدرة، أو الشجاعة، أو صفاء النفس وطهرها، فإنهم لم يبتعدوا عن صفة الرحمة، لإن الصلة وثيقة بين الرحمة، وبين ما ذكروه، فهي إما دوافع كالشجاعة، فإن الرحمة الحقيقة التي تكون في موضعها، لا تتأتى إلاَّ ممن يتحلى بالشجاعة، وإما مظاهر للرحمة، كالإحسان إلى الآخرين، والتواضع لهم، والعفو عنهم.

يشهد لما ذكرت، تلك التعريفات التي أوردها العلماء لهذا الخلق، مع أني لست راغبة في التعرض لهذه التعريفات وتتبعها ـ في محاضرات كهذه ـ ومن ذلك قولهم: (الرحمة حالة وجدانية، تعرض غالباً لمن به رقة القلب، وتكون مبدأ للانعطاف النفساني، الذي هو مبدأ الإحسان) (1) .

ولعل أوضحها، وأيسرها، قولهم: (هي رقة يجدها المخلوق في قلبه، تحمله على العطف، والإحسان إلى سواه، ومواساته، وتخفيف آلامه) (2)، وهي الرحمة التي يناسب أن يوصف بها المخلوق.





(1) المرجع السابق، ج5، 660.


(2) إنجيل متى : 5 : 38 – 44، طبعة بيروت، 1968م


(1) فلسفة تاريخ محمد، ص 43، العلامة محمد جميل بيهم.


(2) الرسالة المحمدية، ص 66، مرجع سابق.


(1) من قصص الشمائل، ص 61، أحمد عز الدين.


(2) دستور الأخلاق في القرآن ، ص 90، د. محمد عبد الله دراز.


(1) انظر لمزيد من التفصيل، من أخلاق النبي، ص 20 – 40، محمد الحوفي.


(2) الرسول حياة محمد، ص 14، ر. ف . بودلي.


(1) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، ج7، ص 111، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر، 1995 م ، بيروت.


(1) انظر التحرير والتنوير، ج4، ص 144-145 بتصرف، الطاهر ابن عاشور.


(2) أخرجه الحاكم في المستدرك، ج1، ص 91، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، ج1، ص 411


(1) الكليات، ج1، ص 471، أبو البقاء أيوب بن موسى الكفوي، مؤسسة الرسالة، بيروت.


(2) الرحمة في القرآن، ص 22، موسى عبده عسيري، ط1، 1412هـ، مكتبة الرشد، الرياض.







يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
السنهوري




عدد المساهمات : 2141
نقاط : 6186
النخبة : 0
تاريخ التسجيل : 15/06/2011

مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم   مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالجمعة يناير 27, 2012 2:32 pm

تحرق وهي حية، بعد وفاة زوجها ، إذ لا معنى لبقائها بعده، وكانت الحضارة اليونانية، تحتقر المرأة، حتى قال أحد فلاسفتهم، يجب أن يحبس اسم المرأة في البيت، كما يحبس جسدها.

لا أود أن أسترسل في هذا الحديث، الذي لا يروق لنا جميعاً، ولكنها إشارات تؤكد خلو هذه المجتمعات من مظاهر الرحمة، ومعالم الإنسانية، وانتشار الظلم والقسوة.

ولقد لخص وليم موير الوضع آنذاك، بقوله: (لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالاً منه، وقت ظهور النبي محمد ، ولا نعلم نجاحاً وإصلاحاً تم كالذي تركه عند وفاته)(1).

إن كان ثمة بعض صور للرحمة، والتسامح، متناثرة هنا وهناك، وهي مما لا ننكره، فإنها تبقى تصرفات فردية، لا تكاد ترى، أو تؤثر في المجتمع، بإزاء صور الظلم، والتسلط، والعدوان، السائدة آنذاك على نطاق واسع.

بعث الله الرحمن الرحيم، في هذه البيئات، وإلى هؤلاء الناس، نبي الرحمة r رحمة بهم، وأنزل عليه ديناً هو الرحمة بعينها، وهو ما يشجعنا على القول إن البداية كانت من هنا، إنها رحلة الألف ميل، التي كانت هذه خطوتها الأولى، إنها رحلة البشرية إلى عالم الرحمة والتراحم، والحق أن هذا الكلام ليس كلاماً عاطفياً، ولا صادراً من فراغ، وإنما هو ثمرة بحث وتحليل، ويبقى المستمع هو الحكم، ولطالما وثقت به واحترمته.

لقد بدأ نبي الرحمة r منذ فجر دعوته، ينشر ثقافة الرحمة، بين الناس، على الرغم من أن البيئة الأولى التي عاش فيها ـ وهي مكة ـ ثلاث عشرة سنة يدعو فيها إلى الرحمة، كانت بيئة معادية له، بكل إمكاناتها، ليس للرحمة فيها مكان يذكر، إلاَّ مواقف محددة محاصرة أملتها على أصحابها القيم العربية التي لم تختف معالمها على الرغم من شيوع ثقافات منافية لهذه القيم التي صارت غريبة، ولم يكن معه أعوان، باستثناء أفراد مضطهدين يزيدون كل يوم، على الرغم مما كانوا يتعرضون له من ظلم، واضطهاد.

بدأت مظاهر رحمة نبي الرحمة r، بأتباعه وأعدائه على حد سواء، منذ اليوم الأول لدعوته، وهو ما استرعى انتباه الباحثين في سيرته، حين ألزم نفسه، وألزم أتباعه، بعدم الرد على إساءات أعدائهم، وكان ينفذ بهذا توجيهات ربه، حين قال له: ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ [النساء : 77]، ووجهه في مقام آخر قائلاً له: ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰇ ﰈ [الزخرف: 89]، وفي موضع ثالث أمر الله نبي الرحمة r وأتباعه بالعفو والصفح فقال: ﮤ ﮥ [البقرة:109].

لقد كانت الرحمة منذ الأيام الأولى، حاضرة ظاهرة، في هذا المنهج، ليستقر في أذهان الناس جميعاً، أن كلمة الفصل للمبادئ ، والصراع هو صراع معتقدات وحسب، والبقاء فيه للأصلح، دون مؤثر خارجي من قوة أو غيرها من المؤثرات، والنبي r عازم على هذا المنهج، وهو يعلم أن خصومه لن يوافقوه عليه، كما أن النبي r رأى خيراً ورحمة في هذا المنهج الذي يقوم على الصفح، والصبر، والتسامح، لأن من آمن بالنبي، ومن كفر به، أبناء مجتمع واحد، تجمعهم صلات القربى، والجوار، وربما يضمهم بيت واحد.

لقد كان من رحمة النبي r بهم جميعاً، أن نهى أتباعه عن القتال، والرد بالمثل، حتى لا يقتل الأخ أخاه، أو الصديق صديقه، أو الجار جاره، ما أمكن إلى ذلك سبيلاً.

لقد استمر هذا المنهج الفريد، والغريب، على هذه البيئة سنوات عديدة، فقد اعتاد الناس في هذه البيئات، أن يحلّوا مشاكلهم حتى اليسيرة بالقتال، وقد فكَّر أعداء نبي الرحمة r في مكة بهذا الأمر، وقالوا له صراحة: (كأنك تريد أن يعظم بيننا الخلاف، حتى يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى)(1)، أي يقضي بعضنا على بعض، حتى لا يكاد يبقى منا أحد، لكنهم لم يعلموا أن النبي، يفكر بغير ما يفكرون به، ولديه منهج غير مألوف، سوف يشهره في وجوههم بدل السيوف.

قد أفصح النبي r عن هذا المنهج حين طلب منه أتباعه، أن يدافعوا عن أنفسهم، بسبب ما يتعرضون له من أذى، فقد قالوا له، يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال لهم: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم(1).

وهاهم اليوم جميعاً رضي من رضي وكره من كره أمام منهج جديد، يواجه الخلافات ـ ولو من طرف واحد ـ ، بالدعوة إلى الرحمة، والتسامح، والعفو.

لقد لفت النبي r بهذا انتباه البشرية، قديماً وحديثاً ، إلى أن الرحمة كفيلة بأن تهيئ المناخ المناسب للحوار والتفاهم بين الناس، على الرغم مما بينهم من اختلاف في الآراء والأجناس.

فإن الكراهية تعمي، وصوت القوة يصمي، وعندها تسود شريعة الغاب.

لم يكن خلق الرحمة في نبي الرحمة r سلوكاً شخصياً وحسب، دونما التفات منه إلى المحيطين به، كما هو حال بعض العظماء، حين جعلوا من الأخلاق الحميدة، صفات شخصية، امتازوا بها عن أبناء مجتمعهم الذين استمروا على ما هم عليه مثل زهد بوذا مثلاً، حتى قد يتوهم أنها أخلاق نخبة لا صلة للعامة بها، وهم غير مطالبين بالتمثل بها.

فقد تخلق النبي r بهذا الخلق، ثم أمر به الناس، وتعاهده بأقواله وأفعاله حتى أمكن القول بلا تردد إن نبي الرحمة r بهذا التصرف أوجد بيئة ينمو فيها خلق الرحمة، وتنتشر فيها بالتدريج ثقافة التراحم، بغية أن تصبح الرحمة خلقاً جماعياً، بعد أن كانت خلقاً فردياً ـ لدى قلة منهم ، ضعيفاً منزوياً، ألا يمكن القول إن سلوك نبي الرحمة يُعد رسالة إلى المصلحين والعقلاء داخل المجتمعات البشرية، في كل زمان ومكان ، تحمل في طياتها ضرورة أن يقوم هؤلاء بالدعوة إلى الفضائل التي يحملونها، وبذل غاية الجهد في سبيل إقناع الناس بها، وإن لا يقنعوا بالإيمان بها هم، ثم ترك الناس على ما هم عليه.

لقد اجتهد نبي الرحمة r أيما اجتهاد في ترسيخ هذا الخلق، على الرغم مما لاقى هو وأصحابه، في سبيل هذا من أذى، ومشقة، وتعسف، من قبل أعداء عتاة قساة في طبعهم، اعترضوا على شخصه، ولقد سجَّل القرآن الكريم اعتراضاتهم هذه، لتكشف عن قسوتهم وسوء طويتهم، حين ذكر مقولتهم: ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ [الزخرف: 31]، واعترضوا على مبادئ دعوته، واعترضوا على أتباعه.

وضع أعداؤه في مكة، القاذورات على رأسه، وهو ساجد، حتى إنه لم يتمكن من رفعها، فجاءت ابنته فرفعتها، وتعرض للضرب في إحدى المرات، وبصق عليه أحدهم، وكانوا دائمي السخرية منه(1).

وسخر أعداء النبي و هؤلاء، أيضاً من المبادئ التي يدعو إليها، فقد كان يدعو إلى عبادة إله واحد، وقد ذكر القرآن الكريم اعتراضهم هذا حين قال: ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ [ص : 5].

كما عذَّبوا أتباعه، بأبشع صور التعذيب، فقد قتلوا سمية بنت خباط، بعد تعذيبها(2)، وهنا توقفت الدكتورة سارة عن الكلام قليلاً، ثم نظرت إلى الحضور، وهي تتبسم، ويبدو عليها بعض التأثر، وقالت لهم، يسعدني أن أنحاز مرة أخرى في هذه المحاضرة إلى بنات جنسي، لأقول لكم، إن امرأة كانت أول من ضحى بنفسه، وقتل في سبيل تعاليم دين الرحمة، ثم مات زوجها ياسر تحت التعذيب، وتعددت صور التعذيب، وامتدت إلى فترات طويلة.

قبل أن أسترسل في عرض هذه الأحداث، أود أن أشير إلى مسألة منهجية ذات أهمية، خلاصتها أنني حين أعرض هذه القصص والحوادث أمامكم، إنما أريد أن أخلي بينكم وبينها بغية استخلاص ما فيها من معالم ودروس تُظهر معالم نشر الرحمة بين الناس.

وثمة أمر آخر لا يقل أهمية، وهو أن طبيعة المحاضرات الثقافية، تستوعب ذكر هذه القصص الصحيحة الثابتة، لأن النفوس تأنس بها، بخاصة أننا بحثنا عن مثلها في سير العظماء الذين سبقوا نبي الرحمة r فلم نكد نظفر بشيء منها.

وأمر ثالث أختم به، وأرجو المعذرة لهذا الاستطراد، وهو أني كنت أحب كثيراً وأنا على مقاعد الدراسة أن يذكر لنا المحاضر مثل هذه القصص، لأنها في نظري تختصر المسافة كثيراً، وافترض أنكم مثلي، عندها تكلم بعض الحاضرين بما يفهم منه الموافقة على كلامها.

ولا يفوتني هنا أن أذكر أيضاً، صورة من صور التعذيب، التي حصلت لامرأة على يد أهل مكة، وهذه المرأة هي أم سلمه، التي صارت فيما بعد زوجة للنبيr بعد وفاة زوجها، فقد ذكرت طرفاً من قصتها هذه، أدعها تقصها عليكم (قالت: لما قرر أبو سلمة الهجرة ـ تعني زوجها ـ ، حملني أنا وابني سلمة على بعير لنا، وخرج بنا إلى المدينة، فاعترضه رجال من بني المغيرة، وهم أهلي، وقالوا له: لا ندعك تخرج بابنتنا، وأخذوني منه ومعي ابني، فلما رأى بنو عبد الأسد ـ وهم أهل زوجي ـ ما صنع أهلي ، قالوا: والله لا نترك ابننا عندها، إذ نزعتموها من صاحبنا.

قالت: فتجاذبوا ابني بينهم، حتى خلعوا يده، وظفر به أهل زوجي، بنو عبدالأسد، وانطلق بي أهلي بنو المغيرة، ففرق بيني وبين زوجي، وبين ابني الصغير بعد أن خلعت يده، فكنت أخرج كل يوم إلى أطراف مكة، فما أزال أبكي من الصباح حتى المساء سنة، أو قريباً منها)(1)

ولا أود أن أعلق شيئاً على هذه القصة، فحسبها أن تكون لوحة مأساوية، تتحدث عن نفسها.

كان الرد من نبي الرحمة r، الدعوة إلى التسامح والتراحم، وهو أمر شاق على النفوس، وكان للقرآن الذي ينزل بمكة آنذاك دور في نشر ثقافة الرحمة، فقد كان يحث على الصبر، ويقص على المسلمين أخبار من سبقهم، من المؤمنين من الأمم السابقة، ليخفف عنهم.

إن مما يلفت الانتباه أيضاً، أن القرآن لم يتضمن قط الدعوة إلى قطع صلة الرحم، بين من أسلم ومن بقي على كفره، ولم يأذن بلعنهم، أو ترك البر والإحسان بهؤلاء الذين يحاربون النبي r ويعذبون أتباعه.

لقد خطر ببالي تساؤل، أود أن أطرحه عليكم أيها الأعزاء، والحق أنني لم أرَ أحداً ذكره، ألا تلاحظون من هذا العرض الموجز، أن ثمة تشابهاً واضحاً بين دعوة السيد المسيح، ودعوة نبي الرحمة r في مكة، فكلاهما كان يدعو إلى التسامح والعفو.

ربما أذهب بعيداً إن قلت أن ظاهرة التسامح والعفو، كانت أكثر وضوحاً في دعوة النبي محمد r من دعوة المسيح، لأن نبي الرحمة r حصل بينه وبين خصومه عداوة ظاهرة، وطالب أتباعه منه مراراً بالسماح لهم بمقاتلة عدوهم ، لكنه أصر على التمسك بهذا الخلق وألزم به أتباعه، وكان يصر على وجوب التخلق بخلق الرحمة، رغم الاستفزازات الكثيرة، التي صدرت من أعدائه في مكة، ورغم ما تعرَّض له أتباعه من تعذيب.

إنها رسالة إلى أولئك الذين أساءوا فهم نبي الرحمة r، حين توهموا أن دعوته نقيضة لدعوة المسيح، ولقد أعجبتني عبارة للكاتب الإنجليزي الكبير برناردشو، حين وقف على هذه الحقيقة، فقال: (لقد درست محمداً باعتباره رجلاً مدهشاً فرأيته بعيداً عن مخاصمة المسيح)(1).

ويستمر الأمر على حالة، نبي الرحمة r يواجه أعداءه بالعفو والرحمة، وهم يواجهونه ويواجهون أتباعه بالقسوة، التي كانت أشد مظاهرها، بعد مرور سبع سنوات على دعوته، حين قرر أعداؤه في مكة محاصرة النبي r وأتباعه، وكل من يقف معه، من أقاربه، في وادي يُعرف بشعب أبي طالب بغية عزلهم عن العالم الخارجي، ومقاطعتهم اقتصادياً، واجتماعياً .

لقد نجحوا في هذا واستمر العزل، والحصار، ثلاث سنوات، كانت جد قاسية، ومروعة، على النبي r ومن معه (1)، والنبي لم يُغير ولم يبدل في سلوكه، حينئذ بدأت تظهر ثمار الرحمة، التي وضع بذرتها في تلك البيئة، ورعاها حق رعايتها، بأقواله، وأفعاله.

فقد تحركت الرحمة، في قلوب عدد من كبار المعارضين له، وقرروا إنهاء الحصار، وإلغاء العزلة.

خرج نبي الرحمة r ومن معه منتصرين، حين تعاطف معهم كثير من الناس داخل مكة وخارجها، بسبب ما أصابهم، وشعر أعداؤه بالحرج والهزيمة، لأن قسوتهم هزمت أمام رحمة النبي r ومسالمته، فكانت نتائج هذه القسوة عكسية عليهم.



أيها الحضور الأعزاء ..

أشعر أني أطلت عليكم، في هذه المحاضرة، واسمحوا لي أن اختمها، بالقول، لقد أوجد نبي الرحمة r بيئة تنمو فيها الرحمة، لتصبح ثقافة تنتشر بين الناس، ونجح في جعل الرحمة وسيلة للحفاظ على أصحابه، واستخدمها سلاحاً انتصر فيه على أعدائه في مواطن عدة، كما رأيتم، وهو مسلك لم يكن معروفاً لدى الناس من قبل.

في هذه الأثناء وقف أحد الحاضرين، فشكرها على ما أسماه طول النفس عندها، وقال لها، اسمحي لي أن أطرح تساؤلاً ، فأذنت له مباشرة، فقال: لاشك أننا أمام شخصية عظيمة، تحسن صناعة الصبر ونشر الرحمة، في بيئة لا تريدها ولكن ما قولك لو أن أحداً ممن استمع إلى هذه المحاضرة قال إن الذي رأيناه من نبي الرحمة r لم يكن رحمة ولا تسامحاً، ولكنه كان استسلاماً وتعاملاً مع واقع، لأنه لا يملك غير هذا التصرف، بسبب قلة أتباعه، وضعف إمكاناته.

فلم يكن أمامه إلاَّ أن يقابل الإساءة بالصبر، ويتجنب بشتى الوسائل الصدام مع خصومه في مكة، وهم الأكثر والأقوى.

اتجهت أنظار بعض الحضور إلى المتحدث، وكأنهم يؤيدونه فيما يقول، وينتظرون سماع رأي الدكتورة سارة التي استقبلت وجهة النظر هذه بصدر رحب، وقالت، للحاضرين، هل سمعتم ما قاله زميلكم، فقال بعضهم نعم سمعنا.

قالت: أعتقد أن محاضرة اليوم تضمنت بعض إجابات عن هذا التساؤل، لكن الوصول إلى الجواب يستدعي شيئاً من القراءة بين السطور، ويحتاج إلى تحليل للأحداث التي مرت بنا، والأحداث التي ستأتي، بعد أن تتبدل أحوال النبي r، من الضعف إلى القوة، وبهذه المناسبة تذكرت الآن رأياً يتبناه كثير من العلماء المسلمين، مفاده أن النبي r في حقيقة الأمر لم يكن في يوم من الأيام ضعيفاً، ولا عاجزاً، أمام خصومه، والدليل على هذا أنه لو أراد لهلكوا جميعاً في ساعة واحدة.

فقد ذكرَ رواة الحديث حديثاً أجمعوا على صحته، جاء فيه أن الله تعالى أرسل ملكاً من السماء إلى نبي الرحمة r بعد أن اشتد تكذيب قومه له، وعرض عليه أن يهلكهم جميعاً، فأبى النبي r هذا بشدة(1) ، فلو كان تبدل الموقف منوطاً بالقوة، لتبدل موقف النبي r حالاً بعد أن أمده الله تعالى بهذه القوة الخارقة.

لكن هذا لا ينفي ضعف المسلمين آنذاك فيما يظهر للناس، ولهذا أقترح أن نقسم هذه المهمة، فأنتم تبحثون فيما مرَّ بنا من أحداث، لعلها تحمل بعض إجابات عن هذا التساؤل المشروع،وأنا أتكفل باستحضار هذا الاستفسار في ضوء قراءات جديدة، في المحاضرات القادمة بغية الإجابة عنه.

سأفتح المجال في المحاضرة القادمة للاستماع إلى وجهة نظركم، شكراً لكم وإلى اللقاء.


المحاضرة الرابعة


معالم تأصيل الرحمة في نفوس البشر




توافد المتابعون لهذه المحاضرات على القاعة، وكانت الدكتورة سارة قد سبقت أكثرهم إليها، ويشعر المراقب لوقائع هذه المحاضرات، أن المحاضرة الرابعة قد تختلف عن سابقتها، فبعض الحاضرين متحفزون، دخلوا القاعة وهم ينظرون في كراسات يحملونها، ولا يخلو الحال من مناقشات جانبية، أكثرها غير مسموع.

بدأت الدكتورة سارة المحاضرة بالقول، الحديث في الدقائق العشرة الأولى لكم أيها الأعزاء، حول التساؤل الذي أثير في نهاية المحاضرة الماضية، كما تعلمون.

وقف أحدهم من الصف الأول، وكان يبدو عليه أنه في الستينيات من عمره، وقال: أعتقد أن الإجابة عن هذا التساؤل سابقة لأوانها، إذ ليس من السهولة بيان هذا الأمر، قبل الاطلاع على بقية سيرة نبي الرحمة r ، واستعراض أحداثها، وهذه وجهة نظري .

أرجو أن لا تمنع الآخرين من إبداء آرائهم، ثم شكر الدكتورة وجلس، التي بدورها لم تعلق بشيء، وإنما اكتفت بالابتسام ورد التحية وشكره على مشاركته.

عند ذلك وقفت امرأة ، يبدو عليها التردد، ونظرت حولها، لترى هل من أحد لديه الرغبة في الحديث قبلها، فلما لم تر أحداً، قالت: وجهة نظر المتحدث الكريم جميلة وتستحق التقدير، لكن يبدو لي أنه مرَّ بنا بعض أحداث تخدم قضيتنا ولا يحسن إغفالها،

إن منهج العفو والرحمة الذي سلكه نبي الرحمة r لم يكن من تلقاء نفسه، بل أمره الله تعالى به، كما رأينا في التوجيهات القرآنية الماضية، والنبي قطعاً، يلتزم بهذه التوجيهات بحذافيرها، مما يعنى أن هذا الخلق، لم يكن وليد الظروف، والإمكانات، وباجتهاد من النبي والأحداث تشهد لهذا الملك بخاصة بعد تبدل أحوال النبي r فيما بعد.





(1) حياة محمد، وليم موير، نقلاً عن كتاب بطل الأبطال، ص 11، عبد الرحمن عزام.


(1) البداية والنهاية، ج3، ص 68، ابن كثير.


(1) انظر السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، ج1، ص 158، د. محمد أبو شهبة، وانظر السيرة النبوية، دروس وعبر، ج1/ ص 313 ، الصلابي.


(1) السيرة النبوية، ج1، ص 395، ابن هشام ، وانظر السيرة النبوية، عرض وقائع وتحليل أحداث على التوالي، ص 288 – 291، د. محمد علي الصلابي، ط1، دار الإيمان ، الإسكندرية.


(2) انظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصيلة، ص 186، د. مهدي رزق الله ، ط1، 1992/ ، مركز الملك فيصل للبحوث، الرياض.


(1) المرجع السابق ، ج، ص 477 بتصرف ، السيرة النبوية الصحيحة، ج1، ص 202 فما بعدها ـ بتصرف ، د. العمري.


(1) الرسول في عيون غربية منصفة، ص 70، الحسيني الحسيني معدي ، ط1، 2006م، دار الكتاب العربي، دمشق، القاهرة


(1) انظر السيرة النبوية، ج1، ص 430، ابن هشام ، وانظر السيرة النبوية، ص 347 وما بعدها، د. علي الصلابي، وانظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص 194 فما بعدها ـ بتصرف.


(1) وأصل الحديث في مسلم، وهو طويل، جاء فيه أن النبي r بعد أن رجع من الطائف حزيناً، بسبب ما أصابه من أهلها، أرسل الله جبريل مع ملك الجبال ، فقال الملك، لو شئت يا محمد أطبق عليهم الجبلين، فقال النبي r ، بل أرجو أن يخرج الله تعالى من أصلابهم من يعبد الله وحده ، ولا يُشرك به شيئاً. وانظر صحيح مسلم ، الذي أورد هذا الحديث ، باب ما لقي النبي من أذى ، ح 4653، السيرة النبوية الصحيحة ، ج1، ص 186، د. أكرم ضياء العمري.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
السنهوري




عدد المساهمات : 2141
نقاط : 6186
النخبة : 0
تاريخ التسجيل : 15/06/2011

مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم   مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالجمعة يناير 27, 2012 2:33 pm

أرجو أن تكون فكرتي قد وصلت، وأنا قطعاً لا أملك إمكانات الدكتورة وقدرتها على التعبير، بادرت الدكتورة بشكرها، والثناء على طرحها الموفق إلى أبعد حد.

قالت الدكتورة، بقى من الوقت ما يسمح لشخص ثالث بإبداء رأيه، فقال أحدهم من آخر القاعة، بصوت مرتفع، أنا هو، فالتفت أكثر الحضور إليه، فبادر بالقول، يبدو لي أن نبي الرحمة r لو أراد أن يرد الإساءة بمثلها، لأمكنه هذا، فأنتم تذكرون أن أتباعه، طلبوا منه غير مرة، أن يأذن لهم باستعمال القوة، للدفاع عن أنفسهم، فلم يسمح لهم، وقال لهم بكل وضوح وصراحة، لم يؤذن لي بعد، فالمسألة إذن ليست مسألة ضعف، وعجز، وشكراً.

هنا تحدثت د. سارة، فقالت: أرجو المعذرة، فأنا لم أقصد أن أمنع أحداً من إبداء رأيه، عندما حددت الوقت بعشر دقائق، وها أنا أقول، من لديه رأي بما نحن بصدده، فليتفضل بطرحه .

فوقف شاب تعرفه الدكتورة جيداً لأنه من طلابها في الجامعة، فقال بلغة حماسية، ما الذي كان يمنع أتباع نبي الرحمة r، الذين كانوا يعذبون بالنهار من الانتقام لأنفسهم من أعدائهم بالليل مثلاً، ونحن نعرف طبيعة المكان الذي وجد فيه هؤلاء الناس، فهو قطعاً من حيث إمكاناته ليس مثل إحدى المدن المعروفة لدينا هذه الأيام وشكراً.

أعجبت د. سارة بحماس الشاب المتكلم، وبسرعة حديثه، وشعرت أنه لفت انتباه الحاضرين، فشكرته وشجعته، ثم قالت: أعزائي الكرام: كم أنا مسرورة في هذه اللحظات، ولا أدري هل سروري نابع مما سمعت من آراء تدل بوضوح على استيعابكم لما أطرحه، أو أنه نابع من تفاعلكم مع هذه المحاضرات، الذي أشعر أنه ينمو ويزداد، لأننا جميعاً ننتظر تتابع الأحداث، لنرى هل ستشهد للقول بأن الرحمة خلق أصيل في نبي الرحمة r لا يتغير ولا يتبدل، أم تشهد للقول بأن الرحمة والتسامح، كانت آنيِّة بسبب الضعف ، وقلة الإمكانات.

أيها الحضور الكريم ..

سعى نبي الرحمة r منذ بداية أمره، إلى وضع معالم لما يمكن أن تسمى بمصطلحات العصر، نظرية أخلاقية في مجال الرحمة، وهذا ظاهر من خلال الأقوال والممارسات التي صدرت عنه، وأحسب أني قادرة على بيانها من خلال المظاهر التالية:

1- من خلال تذكير أتباعه على الدوام، بأن الله تعالى رحمن رحيم، وذلك عن طريق المداومة على قراءة القرآن، وحسبنا أن نعرف أن المسلم يردد: ﭛ ﭜ في اليوم قرابة ثلاثين مرة، في صلوات الفرض والتطوع، عندما يقرأ الفاتحة، في كل ركعة من صلاته، والتذكير برحمة الله، يحمل المسلم على التخلق بها.

ومن مظاهر رحمته سبحانه بمخلوقاته جميعاً، أنه أنزل من السماء جزءاً من رحمته إلى الأرض، من أجل هذه المخلوقات، وهذا ما أوضحه النبي r بقوله: (جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)(1).

إن في التنويه برحمة الفرس لولدها، إشارة لطيفة إلى تراحم الحيوانات، والناس أولى وأحوج لهذا التراحم، لأنهم أشد فتكاً ببعضهم حين تغيب الرحمة، وتحل القوة والكراهية.

2- حرص نبي الرحمة r على تذكير أتباعه بمنزلة الرحمة، وأهميتها، والتأكيد على أنها ليست خلقاً تكميلياً جمالياً، بل هي خلق لازم واجب، فكان مما قاله في هذا المقام: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)(2) ، وقال لهم أيضاً: (الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء)(1).

مما يحسن التنويه إليه، في هذا المقام، أن النبي r كان يسعى إلى نشر ثقافة الرحمة على أوسع نطاق، بين الناس، ولم يكتفِ من أصحابه بالرحمة الخاصة التي تكون لا محالة بين أبناء الأسرة الواحدة، وبين الأقارب، والأصدقاء الخُلَّص، فهذه رحمة محمودة، ولكن يحتمل أن يكون لها دوافع أخرى.

ها هو النبيr في سبيل هذا المفهوم، يقول لأصحابه(لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا يا رسول الله كلنا رحيم، قال إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة)(2)، وهذا توجيه حسن يسهم في نشر ثقافة الرحمة بين الناس، من حيث هي خلق مستحب، وقيمة إنسانية عظيمة.

وكان يفاضل بين أصحابه، بقدر تمثل الرحمة في نفوسهم، ويجعلها ميزة لهم، فهاهو يقول (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)(3)، ويقول النبي r في موطن آخر (أرحم هذه الأمة بها أبو بكر)(4)، وهذا تنويه من النبيr بمنزلة الرحمة، وبقيمتها حين كشف لأصحابه، أنها من مسوغات تفضيل أبي بكرt عليهم جميعاً.

3- ممارسة نبي الرحمة r لهذا الخلق، في شؤون حياته كلها، دونما تكلف، أو تصنع، فقد زار قبر أمه، وجلس عنده، فبكى بكاءً شديداً، والصحابة حوله(5) .

وزار يوماً أحد أصحابه، وكان مريضاً، وهو سعد بن عبادة t، وكان معه عدد من أصحابه، فلما دخل عليه، ورآه بكى النبي r لحاله(6). بل كان نبي الرحمةr ذا حس مرهف، يتجنب بعض المواقف، لأن نفسه الرحيمة لا تتحملها.

فقد ذكر أسامة بن زيد t، أحد الصحابة المقربين منه، قال: (كنا عند النبيr، فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبياً لها، أو ابناً لها في الموت، فقال الرسول r، أرجع إليها فاخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب، فعاد الشخص وقال للنبي r: إنها قد أقسمت لتأتينها.

قال فقام النبي r، وقام معه سعد بن عبادة t، ومعاذ بن جبل t، وانطلقت معهم، فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة(1) ، ففاضت عينا الرسولr، فقال سعد، ما هذا يا رسول الله ؟ قال هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء(2).

إن سؤال هذا الصحابي الذي يحمل شيئاً من التعجب، ليدل على أن الثقافة السائدة آنذاك تستهجن أن يبكي العظيم، لأنه قد يصغر في عين قومه، فوجدها النبي r فرصة مواتية لتصحيح المفاهيم.

لقد صعب على النبي r أن يحضر هذا الموقف لأنه لا يحتمل أمثاله، رحمةً منه بهذا الطفل، ورحمةً منه بأمه، ولكن لما حضر بكى لهذا الموقف المؤثر، وبعض أصحابه ينظرون إليه، فوجدها فرصة مناسبة ليبين لهم أن هذا الموقف يستدعي البكاء الدال على الرحمة، والله الرحيم يكافئ الرحيم من عباده فيرحمه.

وعندما توفى ولده إبراهيم بكى لفراقه (3)، إضافة إلى مواقف أخرى كثيرة بكى فيها، والصحابة ينظرون، ويشاركونه البكاء فيها، بكل عفوية، وصدق، إنها دعوات واضحة من النبي r إلى ضرورة التفاعل الإيجابي، مع المواقف بما يناسبها، وإلى التحذير من الاتصاف باللامبالاة، والقسوة والجمود.

واسمحوا لي أن أذكر في هذا المقام شهادتين لاثنين من كبار زعماء العرب الذين كانوا من أشد خصوم نبي الرحمة r، وقد شهدا هذه الشهادة قبل إسلامهما، وهما أبو سفيان بن حرب وعروة بن مسعود الثقفي.

فقد قال الأول: (ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً(1)، أما عروة الثقفي فقد قال : ما نصه وهو يخاطب قريشاً : والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً)(2).

لهذا الحب، آثاره وثماره، فلقد كان أصحابه شديدي الحرص، على متابعته، فيما يصدر عنه، من قول أو فعل، وكانت لديهم رغبة شديدة في التشبه به، في كل أحواله، وأحسب أن خلق الرحمة في طليعتها.

4- حذَّر أتباعه من قسوة القلب، وعرَّض بمن يعرض عن الرحمة، وشدد عليه بالقول، مهما كانت منزلته.

فهذا الأقرع بن حابس، أحد زعماء قبيلة بني تميم، وهو من الشخصيات المعروفة في عصره، دخل على نبي الرحمة r محمد يوماً في حاجة له، وكان بين يدي النبي r طفل كان النبي r يقبله ويحنو عليه، فتعجب الأقرع من هذا التصرف، وكأنه استنكره حين قال للنبي: أتقبلون أطفالكم؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً.

نظر النبي r إليه، ووبخه، وكان مما قاله له، من لا يَرحم لا يُرحم، وقال له: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة(1).

أحسب أن الأقرع كان يتوهم أن تقبيل الأطفال وملاعبتهم يتنافى مع الزعامة والعظمة، وهو ما جعله يستهجن فعل النبي r وربما زاد استهجانه أن النبي r فعل هذا أمامه، وكأن مجلس الكبراء لا يتسع لتقبيل طفل.

أراد النبي r أن يعطي الأقرع درساً يفيد منه من حضر اللقاء ومن سوف يصلهم أخباره سريعاً، إن العظمة تكمن في البساطة، وتظهر في الرحمة.

هذا مشهد آخر، تظهر فيه الرحمة بأبهى صورها، فهاهم ثلاثة أطفال، أبناء عمه العباس وهم: عبد الله ، وعبيد الله،وكثير، كان يصفُّهم صفاً على مسافة منه، ثم يدعوهم للسباق، ويقول لهم: (من سبق إليَّ فله كذا وكذا، فيسبقون إليه فيقعون على ظهر النبي r وصدره ، فيحتضنهم ويقبلهم )(2). ولَكُم أن تتصوروا أعزائي الحضور، حالة رجل يتدافع إليه ثلاثة أطفال، ويتزاحمون عليه، أيهم يكون الأقرب منه، والأولى بجائزته، إنه مشهد يفيض رحمة، وعفوية ،وتبسط .

لقد تذكرت في هذا الموقف، كيف أن كثيراً من الزعماء يتوددون إلى الناس في المناسبات، أو في مواسم الانتخابات بالاحتفاء بالأطفال كمرافقتهم أو مداعبتهم، أو تقبيلهم، لأنهم يعلمون أن هذه التصرفات تظهر للناس الوجه المشرق فيهم، وتقربهم إلى قلوب جماهيرهم.

بيد أن نبي الرحمة r كان يتمثل هذه المعاني بأقواله وأفعاله قبل 1400 سنة بكل عفوية صادقة، وبنية خالصة.

سعى النبي r إلى أن يتخلق الناس بخلق الرحمة من أجل أنها إحدى صفات الله الكريمة، لا من أجل أي دافع آخر، ومن الأساليب التي استعملها في هذا المقام، حثهم على التوسع في ممارسة الرحمة، مع المخلوقات الأخرى، لتصبح الرحمة أصيلة في قلوبهم، عفوية في تعاملاتهم.

فقد ذكر صاحبه الجليل عبد الله بن مسعود t قال: كنا مع النبي r في سفر، فانطلق الرسول لحاجته، فرأينا حمرّة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تُفرِّش، فجاء النبي r فقال: من فجع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها.

ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: (من حرق هذه ؟ قلنا نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلاَّ رب النار )(1)

وذكر النبي r لأصحابه قصتين، تتصلان بهذا المعنى، فقال: فيما يرويه عنه صاحبه أبو هريرة t بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسك بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال (في كل كبد رطبة أجر)(2).

وفي قصة أخرى مماثلة، يحذر من القسوة على الحيوان، فيقول النبي r لأصحابه: (عذبت امرأة في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها، ولا سقتها، إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)(3).

لقد أكثر النبي r من هذه التوجيهات والقصص والممارسات، لأنها كفيلة بأن تعطي الرحمة بعداً عميقاً في النفس، وتدفعها لأن تنشئ رقابة ذاتية في النفس لرعاية هذا الخلق، وهو ما يحتاجه كل فرد على هذه الأرض ، كأن هم النبي الأول، وشغله الشاغل هو نشر الرحمة، والحرص على ممارستها، لتصبح كما ذكرت سابقاً خلقاً جماعياً، ومَعلماً اجتماعياً، يحكم العلاقات، ويسهم في حل المشكلات، أو محاصرتها.

لقد حرص النبي r على أن يرسخ في أذهان أتباعه، ومحبي الفضائل، حب الرحمة، والعمل بها في كل حين، وعلى أية حال، دونما ربط لها بدوافع دنيوية، أو آنية، كتلك التي تحدث عنها علماء الأخلاق.

توجد هذه التربية شعوراً داخلياً، لدى أتباع النبي r بأن الرحمة محببة لذاتها، مرغوبة لآثارها الطيبة، عاجلة كانت أو آجلة، فينشأ عن هذا، أنه إذا خلا مسلم بكلب رحمه، وإذا ظفر بهرة لا يعذبها، بل يرفق بها، وإذا أمسك بطير صغير في فلاة من الأرض، أشفق عليه ورحمه.

وكانت تبدو من النبي r رحمة ظاهرة بالضعفاء من الناس، كالخدم، فإنه كان يحث على التخفيف عنهم رحمةً بهم، وكان ينهى عن القسوة عليهم، فقد ذكر خادمه أنس، أن النبي r لم يضرب في حياته خادماً قط.

وحث النبي r الناس على رحمة هذا الصنف من الناس،مما قاله النبي r في هذا المجال: (هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)(1).

وثمة لمسة حانية أراها في النبي r وهو يوجه الناس، إلى مسألة قد تبدو جزئية، ولكنها ذات دلالة كبيرة، فها هو يقول للناس، فيما يرويه أبو هريرة t عنه (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه، ثم جاء به وقد ولي حره ودخانه فليقعد معه فليأكل، فإن كان الطعام قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين)(1)، يعني لقمة أو لقمتين.

يا له أعزائي الحضور، من توجيه يغرس الرحمة غرساً هادئاً ولطيفاً في النفوس، حين يحث الناس على أن يجلسوا خدمهم معهم ليأكلوا من الطعام الذي صنعوه، فإن تعذر هذا، فلا أقل من أن يعطي صاحب البيت الخادم بعضاً من هذا الطعام، رحمةً به وجبراً لخاطره.

يستقر في القلوب الواعية، والنفوس الصافية،أن الرحمة خلق واجب، من خلال ما سمعوا من نصوص، ومن خلال ما شاهدوا من وقائع من النبي r، ومن خلال أمرهم بمتابعة النبي r والتأسي به، ولم يكتف النبي r من أتباعه بأن يبدو الإعجاب، أو التعجب من التزامه بالرحمة، ودعوته إليها، مع بقاء من شاء منهم على حاله، كما هو مسلك بعض من سبق من العظماء والمصلحين.

وإنما كان النبي r يحرص على أن يرى أتباعه، يمارسون الرحمة قولاً وعملاً، ويحملهم على التخلق بها، حملاً بشتى الوسائل، وهو ما يجعلنا نقول، إن من مظاهر رحمة النبي r بالناس أنه علمهم الرحمة، وأعانهم على العمل بها، وحثهم على ممارستها في شؤون حياتهم.

من ذلك قوله لأصحابه: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، وإن أربع فخامس أو سادس، فيأخذ الصحابة بعضهم، ومن بقي منهم يصطحبهم النبي r إلى داره ، فيتعشون معه)(2).

إنه درس رائع في التكافل والتراحم، كان النبي r شريكاً فيه، يقدمه للبشرية جمعاء، ترى لو أخذت البشرية المعاصرة بهذه النصيحة هل كنا سنقرأ في تقرير التنمية البشرية لعام 2005م أن أكثر من 850 مليون إنسان ثلثهم من الأطفال ما قبل سن الدراسة، واقعون في فخ الدائرة المفزعة لسوء التغذية ومضاعفاتها(1) ؟!! أترك الجواب للبشرية نفسها.

إن هذا بحق هو أظهر ما ميز دعوة النبي r عن دعوات غيره ممن سبقه، فالمسيح دعا إلى الرحمة والتسامح، ولكنه لم يتمكن من إيجاد مجتمع متراحم، وليس أدل على ذلك من أنه تعرض لأذى مجتمعه كثيراً، ولم يرَ منهم معاملة حسنة، وقد وقف على هذه الحقيقة الأستاذ اينين رينيه حين قال: (لقد دعا عيسى u، إلى المساواة والأخوة، أما النبي محمد فوفق إلى تحقيق المساواة بين المؤمنين أثناء حياته(2)).

هذه إشارة واضحة، إلى الفرق بين من يدعو إلى الأخلاق، ولا يتمكن من حمل الناس عليها، وبين من يدعو لها، ويكون من منهجه أن يجعلها واقعاً معاشاً.

وأود أيضاً أن أشير إلى مسألة ذات أهمية تتصل بهذين النبيين الكريمين، فالمسيح لم يتمكن من تطبيق ما دعا إليه، لأنه لم يكن يملك سلطة، فالسلطة في عصره كانت بيد اليهود، والرومان، وموقفهم منه لا يخفى، فكان له عذره، فجاء من بعده أخوه النبي محمد r ليحقق ما تمنى المسيح تحقيقه.

أما نبي الرحمة r فقد سعى إلى أن يملك ما لم يتسن للمسيح الحصول عليه، وهو القوة ليحمي بها ما يدعو إليه، وهو ما يجعلنا نقول، إن القوة التي حازها نبي الرحمة rوالحروب التي خاضها، كانت من أجل حماية الفضائل، وأعد بأن أعرض لهذه المسألة في إحدى المحاضرات.
إن القوة التي أشرت إليها كان استعمالها رحمة بالرحمة التي نتحدث عنها، وأرجو أن لا أتهم بفلسفة الأمور، ولكني أردت بهذا أن أوضح موقفين، قد يبدوان مختلفين،




(1) رواه البخاري، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء، ح 6000 .


(2) صحيح مسلم، باب رحمته r الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، الحديث رقم 6030 .


(1) رواه الترمذي، باب ما جاء في رحمة المسلمين، حديث رقم 1924، وقال عنه حديث حسن صحيح، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج2، ص 925 .


(2) رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، انظر المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح، ص 779


(3) حديث صحيح، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج3، ص 223


(4) حديث صحيح، المرجع السابق، ج3، ص 223


(5) صحيح مسلم، باب استئذان النبي r ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، الحديث رقم 2259


(6) صحيح مسلم، باب البكاء على الميت، الحديث رقم 2137


(1) الشنة : صوت قربة الماء.


(2) صحيح مسلم، باب البكاء على الميت، الحديث رقم 2135.


(3) صحيح مسلم ، باب رحمته r الصبيان والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك، الحديث رقم 6025.


(1) انظر سيرة ابن هشام، ج3، ص 245، طبقات ابن سعد، ج2، ص 56 .


(2) رواه البخاري، باب الشروط في الجهاد والمصالحة، ح 2732.


(1) رواه البخاري، كتاب الأدب ، ح 5967.


(2) رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن.


(1) رواه أبو داود، باب كراهية حرق العدو بالنار ، ح 2675، وهو صحيح انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج1، ص 487، الألباني.


(2) رواه البخاري، باب رحمة الناس والبهائم، الحديث رقم 6009.


(3) رواه البخاري، باب فضل سقي الماء، ح 2365.


(1) رواه مسلم، باب إطعام المملوك، ح 4315


(1) رواه مسلم، باب إطعام المملوك، ح 43147


(2) رواه البخاري، باب السمر مع الضيف والأهل، ح 602.


(1) أرقام تحكي العالم، ص 220، محمد صادق مكي، ط1، 2006م، دار البيان، الرياض.


(2) أشعة خاصة بنور الإسلام، ص 323، اينين رينيه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
السنهوري




عدد المساهمات : 2141
نقاط : 6186
النخبة : 0
تاريخ التسجيل : 15/06/2011

مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم   مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالجمعة يناير 27, 2012 2:35 pm

ولكنهما سليمان لاعتبارات تتصل بكل منهما، واستحضار هذا الأمر مفيد ونحن نتحدث عن المسيح وعن نبي الرحمة r .

أعزائي الحضور ..

سبق أن ذكرنا فيما مضى، أن نبي الرحمة r وضع أسساً ومعالم لخلق الرحمة، جعلته جزءاً أصيلاً من كل عمل مشروع، ومصاحباً ملازماً لكل تصرف أو سلوك.

سعى نبي الرحمة r إلى نشر المنهجية الأخلاقية، لتسهم في بناء الإنسان السوي، وتكوين المجتمع المثالي، وتعني هذه المنهجية فن السيطرة على الأهواء، والعمل على تحقيق القيم الإيجابية، وهو ما يعني عملياً ، الكف عن الشر من حيث هو شر منهي عنه، وفعل الخير من حيث هو خير مأمور به(1) ، وما قصة الرجل الذي دخل الجنة، بسبب كلب، وقصة المرأة التي دخلت النار بسبب هرة عنَّا ببعيدتين.

يؤدي هذا فيما يبدو لي إلى تحقيق التوازن والتكامل، اللذين كان ينشدهما نبي الرحمة r وهو يوجه أتباعه إلى القيام بالتكاليف، وتحقيق الأهداف، التي يسعون إلى تحقيقها أسوة به، في ضوء المنهجية الأخلاقية السابقة الذكر، والتي يأتي في مقدمتها خلق الرحمة.

وجَّه نبي الرحمة r أتباعه إلى أن مشروعية الغاية، لا تعفي من مشروعية وسائلها، فلكي يكون العمل المطروح مقبولاً، لا يكفى أن يستهدف الخير، بل يجب كذلك أن يستلهم الشرع بمعنى أن يكون مشروعاً مقبولاً، وأن يتطابق مع قواعده(2)، والرحمة ـ التي كانت شبه مفقودة في تلك بيئة ـ من أبرزها.

كونوا على ثقة، أعزائي الحضور، أني استعرضت كثيراً من أفعال وإنجازات شخصيات عدة ، من قادة حروب ، وزعماء، ورواد ، لحركات تغيير ، على مدى التاريخ، فلم أرَ أحداً منهم، استحضر هذا التوازن، على مدى رحلته، وطوال سيرته، سواءً مع أتباعه، أو مع أعدائه على حد سواء، لقد انفرد النبي r بهذا المنهج وسبق إلى هذا التميز.

في هذه الأثناء، لحظت الدكتورة سارة أن بعض الحاضرين ينظر بعضهم إلى بعض، وأن بعضهم توقف عن تدوين الملحوظات. فتوقفت عن الحديث، ونظرت إليهم مبتسمة وإذا بأحدهم يقول، كاد الاتصال ينقطع بيننا حيث إن بعضنا فيما يبدو لي لم يستوعب بعض ما قيل في الدقائق الأخيرة.

قالت: لهم شكراً على هذه المصارحة، التي تدل على المتابعة، والاستيعاب، وما ذكرتموه متوقع، لأن ما سبق ذكره يشبه القواعد، بخاصة أنه لم يصاحبها تمثيل، وهو ما سأذكره الآن، ثم ضحكت، وقالت هذه هي عادة الطلاب، لا ينتظرون حتى ينتهي المحاضر من كلامه، لأنه في الغالب سيأتي على ما يدور في أذهانهم، من إشكالات، أو تساؤلات، لكنه الطبع والطبع يغلب، وإن كان بعضكم ليسوا طلاباً حقيقة، فهم أساتذة، والحق أن هذا مبعث اعتزاز لي، أن تستمع إليَّ النخبة، وفي الوقت نفسه مبعث حرج لأني أشعر أني في موضع اختبار، ومحل نقد، ولكني أقول لكم جميعاً الرحمة الرحمة فإنها كفيلة بأن تبعث الطمأنينة في نفسي.

أعزائي ..

سوف أوضح ما سبق إيجازه، من خلال ذكر بعض الأحداث، والوقائع، التي ذكرت في عشرات الكتب، وأود أن أذكر لكم، بهذه المناسبة، أني من أشد الناس نفوراً من الأساطير، وهي للأسف موجودة في سير عدد من العظماء المتقدمين، بخاصة أولئك الذين لا يعرف عن سيرتهم الشيء الكثير، وهو ما جعل أتباعهم ينسجون حولهم الحكايات، ويضعون الأساطير والقصص الخيالية في سيرتهم، ظناً منهم أن العظمة تعني الخروج على مألوف الناس، وأن المرء لا يكون قديساً ، حتى تبدو منه أمور خارقة، غير ممكنة من غيره من البشر.

لقد فات هؤلاء أنَّ البشرية لا تتأثر بالأسطورة أياً كانت، لأن الأسطورة لا تسهم في تربيتها، وإن استوقفتها في بداية الأمر، واستسلمت لها حيناً من الدهر، وهي تعلم أنها أسطورة ، وربما أعجبت بها، أو بتعبير أصح، تعجبت منها.

أعتذر أعزائي عن هذا الاستطراد، الذي لا أعدكم أني سوف أتركه، ولكني أعدكم أن أعتذر إليكم، كلما شعرت أني استطردت في حديثي، إذا تذكرت أو ذُكِّرت، وأعود إلى ما كنا بصدد توضيحه.

سمعتم جميعاً بقادة وزعماء عظام، أمثال الإسكندر المقدوني، وهولاكو، ونابليون، وهتلر، حدثنا التاريخ عن هؤلاء أنهم كانوا محل إعجاب أتباعهم، واستطاع كل واحد منهم، أن يحشد حوله مئات الألوف من البشر، وحدثنا التاريخ أيضاً أنهم استغلوا هذه الجموع الغفيرة بسبب إعجابها بهم، ومتابعتها لهم، واستخدموها في تحقيق أغراضهم بغض النظر عن الأخطار التي تحدق بهم، أو الأضرار التي ستلحق بهم.

ليس أحد منكم بحاجة إلى أن أذكر له ماذا صنع هتلر بجيشه، ولا ما صنعه هولاكو من قبل، أو ما صنعه نابليون الذي عُرف عنه استغلاله لجنوده، وقد سجل هذه الحقيقة من درسوا شخصيته، وتابعوا معاركه، منهم العقيد محمد أسد الله صفا الذي يقول (كان نابليون يسهر على مصالح خدمة جنوده، لكنه كان يستغلهم دائماً بقسوة لا متناهية )(1).

لا يشك أحد منصف، أن نبي الرحمة r حاز على حب جميع أتباعه، وعلى ثقتهم المطلقة، وهو ما تعذر توفره لكثير من القادة، فقد يكون القائد محبوباً، ولا يكون موضع ثقة، لاعتبارات أخرى، والعكس كذلك، فقد يثق الجنود بقائدهم وبقدراته، ولكن ليس بالضرورة أن يحوز على محبتهم، لأسباب لا تخفى.

إن الأحداث التي بين أيدينا، تؤكد أن محمداً نبي الرحمة r لم يكن من هذا الصنف على الإطلاق، فلم يسجل لنا التاريخ حادثة واحدة تدل على أنه استغل هذه المحبة واعتمد على هذه الثقة ليذهب بأتباعه حيث شاء، ويحقق من خلالهم ما يصبو إليه، دونما اعتبار للمنهجية الأخلاقية، وفي مقدمتها وعلى رأسها الرحمة، لأنها ذاك الخلق الذي يحتاج إليه الأتباع، من المتبوع، وربما لا يتطلعون إلى غيره في ظروف كثيرة.

كان النبي r يدعو إلى هذا الدين، بكل تلطف ورحمة، حتى لا يحمل نفوس أتباعه فوق ما تطيق، بل إنه كان في بعض الأحيان، ينصح من جاء ليتبعه، ويبقى معه، أن يعود إلى بلده، حتى لا يتعرض للأذى رحمةً به، وشفقة عليه.

فهذا عمرو بن عبسة السلمي، جاء إلى نبي الرحمة r، في بداية الدعوة، فأسلم وعرض على النبي r أن يبقى معه يسانده، فقال له النبيr ، رحمةً به، وتخفيفاً عنه (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي، وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)(1).

إنها الرحمة التي جعلت نبي الرحمة r يقدم مصلحة الرجل الخاصة على غيرها، وأتمنى على أصحاب الدعوات، وقادة الحركات في عالمنا المعاصر، أن يستوعبوا هذا الدرس، ولا يدفعوا أتباعهم إلى المهالك وهم بعيدون عنها سالمون. حين أمره أن لا يعرِّض نفسه للأذى، والعذاب.

لقد أثمرت الرحمة هذه ، فقد حفظ الرجل للنبي r حرصه عليه، ورحمته به، فلما هاجر النبي r إلى المدينة، وأقام دولة، جاء هذا الرجل، فدخل عليه، وقال له، هل عرفتني، قال له النبي r ، نعم أنت الذي لقيتني بمكة(2).

كان النبي r بحاجة ماسة لهذا الرجل، لقلة من كان معه، لكن النبي رحمه، لأنه وحيد غريب، وتوقع النبي r أن يلحق به أذى كبير، فقال له : (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حال وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)

رحمة النبي r لحال هذا الرجل الصادق، كانت مقدمة على رغبته في بقائه، للإفادة منه في نشر الدعوة.

يصعب على من يتتبع مظاهر رحمة النبي r بأتباعه أن يغفل عن قصة عمار بن ياسر الذي كانت أمه أول من ماتت في سبيل هذا الدين، ولحقها أبوه بعد أن لقي أشد العذاب من كفار قريش.

كان كفار مكة يأخذون هذا الشاب، ويعذبونه عذاباً شديداً، حتى لا يدري ما يقول، وكانوا يطلبون منه أن يشتم النبي r حتى يتوقف عنه العذاب، ففعل، ثم جاء إلى النبي r حزيناً، فقال له النبي r لما رآه ، ما وراءك يا عمار؟ ، قال شرٌ يا رسول الله: ما تركني المشركون حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فقال له النبي r: كيف تجد قلبك، قال: مطمئناً بالإيمان، عندها قال له فإن عادوا فعد(1).

لقد بلغت رحمة النبي r بأصحابه مبلغها، حتى وصل الأمر به إلى أن يأذن لأحدهم أن يسبه شخصياً لينجو من عذاب المشركين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما منحه إذناً مفتوحاً، وكأنه يقول له كلما خيروك بين شتمي وبين العذاب فاختر شتمي ولا عليك، وكأني بالنبي r وهو يحادث عماراً يتذكر بكل ألم أمه التي قتلت وأباه الذي مات بعد التعذيب، فرقَّ له قلبه، ورحمه هذه الرحمة الواسعة.

أترك لكم أعزائي الحضور تصور رحابة هذه الرحمة التي أفاضها النبي r على عمار.

وهذا شاب آخر دفعته محبته للنبي r، وشدة إيمانه بما يدعو إليه، إلى أن يتقدم من النبي r، ويعرض عليه أن يستعين به لقتال أعدائه، على الرغم من شعوره بعدم رضا والديه وقت خروجه، لنسمع أعزائي قصة هذا الشاب.

قال عبد الله بن عمرو بن العاص t، أتى رجل رسول الله r فقال يا رسول الله، إني جئت أريد الجهاد معك، أبتغي وجه الله، والدار الآخرة، ولقد أتيت وإن والدايَّ يبكيان، قال: فارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما (1).

أين هذا من حسرة آلاف الأمهات اليوم، ومن صرخاتهم، وهن يشاهدن أبناءهن يساقون إلى المعارك، دون علمهن، ودون مشورتهن، وكم نرى في وسائل الإعلام يومياً صوراً لأمهات ثكلى يصرخن، وهن يحملن صور أبنائهن، إما لأنهم قتلوا، أو أسروا، أو فقدوا، ولا أحد للأسف يسمع لهن، أو يمسح دموعهن، أو يقدر وضعهن، ولا تكاد تخلو بلد فيها حروب من هذه المناظر المؤسفة، ولا من جماعات وجمعيات لأمهات القتلى تطالب بالرحمة ولا مجيب .

لقد أبت رحمة النبي r أن يتجاهل هذا الشاب بكاء والديه، فأمره بالرجوع إليهما، حتى يعيد إليهما البسمة، لعلكم تتفقون معي أن أمهات اليوم يتمنين رئيساً يتخلق بهذا الخلق النبوي الرحيم ، يكون أباً للجنود ، وأخاً لأمهاتهم.

توقفت د. سارة برهة، وسألت الحضور قائلة من منكم بوده أن يسأل ويقول قد تكون هذه الحوادث فردية وخاصة بهؤلاء الأشخاص، ولا تمثل منهجاً عاماً. رفع قرابة سبعة أو ثمانية أشخاص أيديهم.

قالت لهم: إنه تساؤل مشروع، وقد خطر ببالي منذ عدة أيام، ولكنه سرعان ما ذهب أدراج الرياح، بعد أن وقفت على حوادث أخرى سأذكر لكم بعضها، وبهذه المناسبة، ما رأيكم لو أن بعضكم بحث في المصادر التي تحدثت عن سيرة نبي الرحمةr لعله يجد أحداثاً مشابهة، وصوراً مماثلة، والأمر على أية حال، اختياري، لعلمي أن كثيراً منكم لديه ارتباطات والتزامات.

أعود للموضوع، فأقول إن الرحمة، لم تغب عن أي من مواقف النبي r ولا يتعذر على المتأمل أن يرى الرحمة كامنة، وراء هذه المواقف، أياً كانت الظروف.

عندما اشتد العذاب على المسلمين الضعفاء في مكة، رق قلب النبي r لهم، وأمرهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة، ورغبهم بالسفر إليها بقوله: (إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد (1))، فهاجر عدد كبير، فوجدوا فيها الأمن والأمان.

هذه أم سلمه، واحدة من أوائل من أسلم، وصارت فيما بعد زوجة للنبي r، وأماً للمؤمنين، تحدثنا عن هذه الحادثة، فتقول لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله، وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه، وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره، مما ينال أصحابه.

فقال لهم رسول الله rSadإن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحدٌ، فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار على خير جار، ولم نخش منه ظلماً (2).

لا يخفى عليكم أعزائي الحضور، من سياق هذه الحادثة أن الرحمة والشفقة على هؤلاء هي التي دفعت النبي r إلى أن يطلب منهم الخروج من مكة إلى الحبشة، على الرغم من حاجته إليهم، ورغبته في بقائهم بجانبه.

أعزائي الحضور ..

أمامي أحداث رحلة العمرة وأعني بها تلك الرحلة التي خرج النبي r هو وأصحابه في السنة السادسة من الهجرة، قاصداً مكة المكرمة، لأداء العمرة.

وحرص أن يخرج معه بعض القبائل، المجاورة له، حتى يتجنب المواجهة مع قريش، لكن هذه القبائل اعتذرت عن عدم الخروج.

أُخبر النبي r أن قريشاً علمت بمقدمه عليهم، وخرجت لمواجهته، فأمر النبي r بتغيير الطريق، لتفادي الاشتباك مع قريش (1)، وفضل أن يسير طريقاً وعرة متعبة، على أن يواجه أعداءه، حتى لا تحصل بينهما حرب، رحمة بالطرفين.

لقد أكد هذا المعنى لوفد خزاعة، الذي قام بدور الوسيط بينه وبين قريش، حين قال لهم النبي r إن قريشاً تضررت كثيراً، بسبب استمرار الحرب، وأنا اقترح عليهم هدنة. وما هذا إلا دليل على كراهيته للحرب، مع قدرته على خوضها، ولكن الرحمة تقتضي حقن الدماء.

لم يقتصر على هذه الوساطة، بل أرسل أحد أفضل أصحابه، وهو عثمان بن عفانt، ليبين لقريش أن الرسول ما جاء إلاَّ زائراً للبيت معظماً له ولا يريد حرباً أو مواجهة.

استمر النبي r على هذا المنهج المسالم، حتى عندما بلغه أن قريشاً قتلت رسوله إليهم عثمان، وتبين فيما بعد أن الخبر غير صحيح ، أغضبه ذلك كثيراً، وأغضب أصحابه، فبايعهم على الموت، إذا دعت الحاجة إلى مواجهة قريش، ومع هذا أبقى الباب مفتوحاً مع قريش وقال بشأنها: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيه حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)(2).

لقد وافق النبي r على شروط قريش الظالمة، والمجحفة، وقد أثارت غضب بعض الصحابة، وهي في ظاهرها كذلك، فقد تضمنت أن يرجع النبي وأصحابه هذا العام، وشطبت من عقد الصلح كلمة محمد رسول الله ، إلى غير ذلك من الشروط الظالمة.

لقد تضمن موقف النبي r هذا دعوة إلى تقديم المصالح العامة على رغبات القادة، وأهدافهم الخاصة.

إن النبي r يدعو إلى رحمة البلاد ومقدراتها، فهي لجميع الأطراف، وكأنه يقول: إن أية دعوة تهدف إلى المحافظة على الكعبة ومكة، فأنا موافق عليها مباشرة.

هذه دعوة نرسلها إلى بلاد كثيرة نسمع أخبار القتال فيها يومياً، والضحية فيها الممتلكات والمقدسات، وبالتالي يكون الجميع خاسراً.

لكن نبي الرحمة r أراد أن يكون الجميع كاسباً والبلد سالماً.

لم يحدث في تاريخ دعوة النبي r التي مضى عليها قرابة عشرين عاماً، أن تبرَّم الصحابة بين يديه، وكأنهم يعترضون عليه، وهم لا يقصدون هذا، وهي سابقة لم تحدث قط.

أعزائي الحضور ..

لم يكن يخطر ببالي قط أن النبي r سوف يحل هذه المشكلة، ويتجاوز بأصحابه هذه المحنة، بكلمة الرحمة، وبالدعاء بالرحمة لا غير.

من حقكم أن تسألوا كيف كان ذلك، بعد أن تم عقد الصلح، أمر النبي r أصحابه أن ينحروا هديهم، وأن يحلقوا رؤوسهم، حتى يتحللوا من الإحرام، فلم يجب أحد منهم لشدة ما بهم من غم وقهر، حتى بعد أن كرر الأمر ثلاثاً.

دخل ساعتها على زوجه أم سلمة، وذكر لها ما حدث، فقالت له: يا رسول الله، لا يخفى عليك حالهم، ولكن أقترح عليك أن تنحر وتحلق، ففعل هذا، ثم خرج عليهم، وقال لهم، يرحم الله المحلقين، قالها ثلاث مرات، فقاموا فنحروا، وأخذ بعضهم يحلق لبعض، حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً غماً(1).

لقد أطلت عليكم بسرد هذه الأحداث، والحق أنها ليست مقصودة لذاتها، ولا أود أن أسترسل في التحليل، والتعليق عليها، وأدع هذا لفطنتكم. والتي لن تغيب عنها ظاهرة الرحمة، والحرص على استحضارها، وإشاعتها، منذ أن خرج من بيته، حتى أبرم الصلح مع قريش، وتجاوز الأزمة مع أصحابه، على الرغم من العقبات الكثيرة، والاستفزازات المتلاحقة، والتي أعرضت عن التفصيل فيها.

لكن اسمحوا لي أن أقول تصوروا معي لو أن النبي r تابع أصحابه، واستغل حماستهم، وتجاوبهم معه، وبيعتهم له على الموت، لو وظف ذلك كله، وأصر على الدخول إلى مكة، وأصرت قريش على موقفها، لحصل بينهم قتال، لا تحمد عقباه، وربما قتل فيه المئات من الطرفين، لأن التحفز وصل مداه، والتحدي من الطرفين بلغ مبلغه.

إن شيئاً من هذا لم يحصل، لأن رحمة النبي r كانت حاضرة، مع كل حدث، هي الموجهة له، وهي المهيمنة عليه، حتى وإن أدى هذا إلى حرج للنبي r من أتباعه، وأعدائه، على السواء.

لقد تحمل ما تحمل، كما أشارت مجريات الأحداث، ولكنه لم يغير أو يتنازل
عن منهج الرحمة، والتي برزت مظاهرها بكل وضوح على الفريقين، فيما بعد. فقد توقفت الحرب لسنوات، وتبادل الأقارب من الطرفين الزيارات، وأسلم من الكفار العشرات.


ألا يمكن القول بعد هذا، إن نبي الرحمة r قاتل بالرحمة خصومه، وساس بالرحمة أتباعه.





(1) انظر دستور الأخلاق، ص 611 – 612 بتصرف وزيادة، د. دراز


(2) المصدر السابق، ص 615 بتصرف يسير، د. دراز.


(1) نابليون بونابرت، ص 10، العقيد محمد صفا، ط1، 1988م، دار النفائس.


(1) انظر صحيح مسلم ، باب إسلام عمرو بن عبسة ، ح 1930، السيرة النبوية دروس وعبر، ج1، ص 277، الصلابي.


(2) انظر صحيح الإمام مسلم، باب إسلام عمرو بن عبسة ـ الحديث رقم 1930.


(1) زاد المسير، ج4، ص 495، ابن الجوزي ،و فقه السيرة، ص 103، بتصرف، محمد الغزالي، ط4، 1989م، دار القلم، دمشق.


(1) رواه ابن ماجة، باب الرجل يغزو وله أبوان، الحديث رقم 2782، وهو حديث صحيح، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج2، ص 387.


(1) انظر السيرة النبوية، ج1، ص 413، ابن هشام ، والسيرة النبوية الصحيحة، ج1، ص 170، د. أكرم العمري.


(2) السيرة النبوية، ج1، ص 397، عبد الملك بن هشام، دار الفكر


(1) السيرة النبوية، ج3، ص 338، عبد الملك بن هشام، دار الفكر


(2) رواه البخاري، باب الشروط في الجهاد والمصالحة، ح 2731


(1) رواه البخاري، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح 2732، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص 4910، د. مهدي رزق الله.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
السنهوري




عدد المساهمات : 2141
نقاط : 6186
النخبة : 0
تاريخ التسجيل : 15/06/2011

مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم   مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالجمعة يناير 27, 2012 2:36 pm

أذكر في هذا المقام مقولة سجلتها عندي للعالم الأسباني جان ليك حين قال: (لا يمكن أن توصف حياة نبي الرحمة r بأحسن مما وصفها الله بقوله: ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ [الأنبياء : 107]. لقد كان نبي الرحمة r رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق(1).

شكرت الحضور، قائلة للحديث بقية، وإلى اللقاء.

*****
المحاضرة الخامسة



الرحمة أولاً


هذه هي المحاضرة الخامسة، التي نتابعها، ونسجلها، للدكتورة سارة، وسوف تواصل كما فهمنا منها الحديث عن مظاهر رحمة نبي الرحمة r لأصحابه.

أعزائي الحضور ــ أرحب بكم جميعاً، وأشكر لكم حضوركم بهذه الكلمات بدأت د. سارة محاضرتها، وأردفت قائلة:

إذا كان نبي الرحمة r لم يستغل أصحابه الاستغلال الذي يؤدي إلى تحميلهم مالا طاقة لهم به، بمعنى أكثر وضوحاً، إنه لم يكن ينظر إليهم على أنهم وقود لمعركة، أو وسائل لتحقيق أهداف رحمةً بهم كما مرَّ بنا، لأنهم بالنسبة إليه هم المعركة التي يقاتل من أجلها، وما هم بوقود لها، وهم الهدف، وما كانوا يوماً وسيلة بيده، بالمعنى الذي نرى آثاره السلبية في سير كثير من القادة العظماء.

فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإنه كان شديد الحرص على التخفيف عنهم، وإظهار رحمته بهم، في كل أمورهم اليومية، على الرغم من شعوره الأكيد بشدة محبة أصحابه له، وقوة رغبتهم في طاعته، ومتابعته في كل ما يصدر عنه، من أقوال أو أفعال.

لقد جعل الرحمة بكل مظاهرها سمة بارزة في كل شؤون حياتهم، سواءً ما اتصل بها بعلاقاتهم مع ربهم تعالى، أو بعلاقاتهم مع النبي r أو بعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً، أو حتى بعلاقاتهم مع أقاربهم من غير المسلمين.

إن أول مظاهر هذه الرحمة هو الترغيب فيها، عبر نصوص واضحة دائمة، ليستقر في الأذهان، وعلى مر الأزمان، أنها هي طوق النجاة، وليس لأحد تجاوزها، أو تجاهلها.

وقد يتعذر علينا إيراد النصوص جميعها، ولكن حسبنا ما يتسع له المقام، فمنها قول الله تعالى: ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ [البقرة: 185]، وإثبات اليسر، ودفع العسر، من أبرز مظاهر الرحمة.

وكذا قول الله تعالى: ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ [الحج: 78] ، وأية رحمة أعظم، وأظهر من تلك التي تؤدي إلى رفع الحرج والضيق عن أتباع نبي الرحمة r، والتخفيف من الله تعالى رحمة ظاهرة: ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ [النساء: 28]، أياً كانت صور هذا التخفيف ومظاهره.

ولقد أبلغ الله تعالى المسلمين، والنبي r من قبل، بأن نبيهم رؤوف رحيم بهم، في قوله تعالى في وصف النبي الكريم: ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ [التوبة: 128].

ولقد رغبت في أن أنظر فيما كتبه أهل الاختصاص، في معنى هذه الآية، وفي بيان الفرق بين الرأفة والرحمة فوجدت كلاماً جميلاً، يسعدني أن ألخصه لكم، فقد قال بعض العلماء: الرأفة هي دفع المضار، والرحمة هي جلب المسار، بمعنى أن الرأفة مقدمة، فهي من باب التخلية، ثم تكون الرحمة التي تجلب النفع، فهي إذن من باب التحلية (1)، لا بأس أن أبين إن المراد بالتخلية إزالة الشوائب والأضرار، والمراد بالتحلية تزيين النفس بالخير وما ينفعها.

وقال بعضهم، الفرق بين الرأفة، والرحمة، أن الرأفة مبالغة فهي رحمة خاصة، وهي دفع المكروه، وإزالة الضرر، كقوله تعالى: ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ [النور: 2]، أما الرحمة فإسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى، ويدخل فيه الإفضال والإنعام(2).

لقد جمع الله تعالى لنبي الرحمة r هذين الوصفين، بهذا الأسلوب، ليكشف بجلاء عن الحكمة البالغة، التي من أجلها وصف بهما النبي r،وأنهما وصفان يبعثان الأمن والطمأنينة، في نفوس أتباع النبي، لأنهم يشعرون أنهم يعيشون في كنف من كلفه ربه أن يكون رؤوفاً رحيماً، وأن يعمل بمقتضى هذين الوصفين، فيدفع عن أتباعه الضرر والأذى والحرج، ويجلب لهم الأمن والخير والسعادة.

لقد استشعر النبي r هذا المعنى العظيم، وهذا الوصف الكريم، فقالها صراحة لأصحابه (إنما أنا رحمة مهداة )(1) وأنا أرى أن كلمة (مهداه ) في هذا الحديث، تشعر الإنسان بجمال الرحمة، وبمدى حاجة البشرية إليها، حتى كأنها ممن يهدى لمن يحب، فالله يحب خلقه، ولهذا أهدى إليهم النبي محمداً r الذي استحضر هذا المعني العظيم، وعمل على تطبيقه، ويؤكد النبي r هذا الوصف في موطن آخر فقال: (إنما بعثت رحمة)(2) .

هذان الحديثان الصحيحان يدلان أن ثمة اتحاداً، أو تلازماً، لا ينفك بين الرحمة بكل مظاهرها، وبين شخص نبي الرحمة r فلا يتصور والحالة هذه، أن يصدر عنه قول، أو فعل، لا تكون الرحمة أبرز سماته.

يحسن أن نذكر في هذا المقام، أن هذه الرحمة، بكل صورها، ومظاهرها، ليست خاصة بتلك الفئة التي تحيط بالنبي r، إذ قد يتوهم أنه خصهم بهذا الوضع المتميز، لاعتبارات لا تخفى، تمليها الصحبة، والمعايشة، والرغبة في استبقائهم، والإفادة منهم، وما شابهها.

كلا ثم كلا، فإن كل ما نعم به أصحابه من رحمة، كان لكل من جاء بعدهم، النصيب الأوفى منه، وهذا ما تؤكده عموميات الأقوال، والتوجيهات، والأفعال، ولقد حدث مرة أن بعضهم سأل النبي r عن هذه المسألة بالذات، فكان سؤاله نعمة لأن الجواب جاء بشرى.

وبيان هذا، أن رجلاً من أصحاب النبي r، أصاب من امرأة قُبْلة، فأتى النبي، فأخبره، فأنزل الله عز وجل: ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯗ ﯘ ﯙ [هود : 114] ، فقال الرجل: يا رسول الله، أليَ هذا ؟ قال: (لجميع أمتي كلهم )(1).

إن النبي r بهذا الإعلان الذي يفيض رحمة، ليؤكد أن شفقته على أتباعه عبر مئات السنين القادمة، لا تقل عن شفقته ورحمته بأولئك الذين يعيشون معه ويشاهدونه صباح مساء.

صاحبت الرحمةُ تكاليف العبادة كلها، وكانت الرحمة تحدد طبيعة هذه العبادات، وتوجهها.

أعزائي الحضور ..

تجمع لدي من خلال قراءات ومتابعات، عدد من القواعد أو المعالم التي تظهر لنا كيف أن الرحمة تفرض نفسها على التكاليف، وتؤثر فيها تأثيراً مباشراً، وهو ما سيتضح لنا من خلال استعراض هذه المظاهر(2) :

1) إن الرحمة تسقط التكليف كليةً عن الشخص، وتعفيه منه، فإن فريضة الجهاد، تسقط عن أصحاب الأعذار، كالمريض، والأعمى، والأعرج، وهذا الحكم يسجله قول الله تعالى: ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ [الفتح: 17].

وكذلك يسقط الحج، الركن الخامس، عن الذي لا يستطيع أداءه بدنياً، أو مالياً، وهو ما يبينه قول الله تعالى: ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ [آل عمران: 97] ، كما يسقط حكم التحريم، عن الأشياء المحرمة، عند الضرورة.

فمن لم يجد إلاَّ الطعام المحرم، والشراب المحرم، إن لم يتناوله عرض نفسه للهلاك، فله أن يأكل منه، ويشرب، وفي بيان هذا الحكم يقول الله تعالى: ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ [المائدة: 3 ]، إنها الرحمة تكمن وراء هذه الأحكام.

2) إن الرحمة تسقط جزءاً من التكليف، مثل قصر الصلاة للمسافر، فإن الصلاة الرباعية، تصبح ثنائية: ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ [النساء : 101].

ذكر المفسرون، عند هذه الآية، لفتة لطيفة جميلة، تصب في الاتجاه الذي نتحدث عنه، وكنت قد عزمت على بيانها لكم، ولكني عدلت عن هذا في اللحظات الأخيرة، وأحببت أن تستخرجوها وحدكم، من كتب التفسير، وأرجو أن أسمعها منكم وقد أشرت إليها في محاضرة ماضية، هي والأمثلة التي اقترحت عليكم البحث عنها في المحاضرة الماضية، فأنا في الحقيقة، لم أنس موضوعها، ولكني أردت أن أعطيكم فرصة للبحث.

3) إن الرحمة ترجئ القيام بهذا التكليف، إلى وقت مناسب لظروف الشخص المكلف به، مثل الصيام بالنسبة للمريض، والمسافر، فحيث إنه شاق على هذين الصنفين، فإن الله رحمة منه أذن للمسافر وللمريض أن يؤخرا الصوم، إلى وقت تزول فيه الأسباب التي يشق معها أداء هذا الركن.

4) إن الرحمة تعمل على استبدال عمل يسير بآخر عسير، فالمسافر الذي لا يجد ماءً للتطهر به، والمريض الذي لا يستطيع استعمال الماء نظراً لوضعه الصحي، أجاز الشرع لهما التيمم، وفي هذا يقول الله تعالى: ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ [المائدة : 6].

كذلك بالنسبة إلى الصيام، فإن عجز الشخص المكلف عن الصيام، إما لكبر سنه، أو لمرض دائم يلازمه، يقدم طعاماً لأحد المساكين، عن كل يوم صيام، قال تعالى:
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
[البقرة : 184].

وليس يخفى أعزائي الحضور ما في هذه المراتب من مظاهر للرحمة، بادية للعيان، بل إننا نعتقد أن الرحمة كانت وراء كل هذه الأحكام، التي يسر بها الإنسان.

أعزائي الحضور الكرام ..

أود أن أذكر مسألة في هذا الموطن، وأشدد عليها، تتعلق ببعض جوانب هذه المحاضرات، التي تبدو أنها أكاديمية، تخصصية، أكثر منها ثقافية عامة، أحياناً أُوكد لكم أن هذا غير مقصود لذاته.

بيد أن الحاجة تدعو إلى بيان أن رحمة النبي r إنما هي بناء متكامل الأركان، له أسسه، ومظاهره، ويحمل في داخله عوامل بقائه، ويغري الناس في كل زمان ومكان، إلى التوجه إليه، والتفاعل معه، بخلاف ما رأينا من مظاهر رحمة ارتبطت ببعض العظماء، والتي لم تعدُ أن تكون كلمة عابرة، أو موقفاً آنياً، أو سلوكاً شخصياً لا تقوى على البقاء، ولا تسهم في البناء الحضاري للبشرية.

وتحسن الإشارة هنا، إلى أن النبي r لم يكتف ببيان هذه الأحكام لأتباعه، وإنما حرص على الترغيب فيها، بالقول، حين قال لأصحابه وهم يسألونه عن إحدى الرخص في العبادات (صدقة تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته)(1)، وبالفعل كذلك، حين كان مسافراً مع أصحابه في رمضان، فدعا بماء، فرفعه بيديه إلى أعلى حتى يراه الناس، ثم شرب منه(1). وكأن الهدف ترويض النفوس، وحملها على الرحمة، حملاً لتصبح سجية.

إن هذا المنهج، الذي سلكه النبي r نابع من شدة رحمته بأصحابه، وبمن سيأتي بعدهم، حتى لا يشدد أحد على نفسه، ويتوهم أن ترك هذه الرخص أفضل، وهو ما دفع النبي r إلى عدم الاقتصار على بيان الحكم فقط، وإنما تابع تنفيذه، بوسائل عدة، وغضب أحياناً، وعتب على من لا ينعم بهذه الرحمة المهداة لهم من الله الرحيم على لسان نبيه، الذي هو رحمة مهداة أيضاً، وهل تهدى الرحمة إلاَّ رحمة، ومن الرحمة أن نستريح قليلاً.

أهلاً بكم أعزائي الحضور، وأود في بداية النصف الثاني من هذه المحاضرة، أن أصارحكم بأنني في غاية السرور من حرصكم على الحضور، فقد كنت أخشى أن يبدأ العدد بالتناقص بعد عدة محاضرات، بخاصة من أولئك الذين لا يهدفون إلى تقديم شهادة الحضور، التي تمنح لهم إلى جهة علمية، للإفادة منها. فلكم جميعاً مني الشكر، والتقدير، وآمل أن تنمو هذه الثقة، المتبادلة بيننا، لأنها عزيزة وغالية، بخاصة في وقت يعاني كثيرون من أزمة ثقة في مواطن عدة.

أعزائي :

ما زال الحديث موصولاً، بمظاهر رحمة النبي r بأتباعه سواءً من كان منهم معاصراً له، أو من سيأتي بعد مئات السنين.

ولكن قبل أن أبدأ، أود أن أتيح الفرصة لمن يرغب أن يعرض ما لديه، من أمثلة سبق أن اقترحت أن تأتوا بها، في المحاضرة الماضية، حول رحمة النبي r بأصحابه.

رفع أحد الحاضرين يده، وهو جالس، وقد تنبهت إلى أنه يستعمل كرسياً متحركاً، فبشت في وجهه، واستمعت له بانصات، فقال: قرأت أن نبي الرحمة r رأى رجلاً كبيراً في السن، يمشى بصعوبة، وهو يتوكأ على ولديه، فقال النبي r ما بال هذا الشيخ، قالوا: (لقد نذر وقرر أن يمشي إلى الحج ماشياً، فأنكر النبي r هذا المسلك، وقال: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب)(1).

شكرت د. سارة المتحدث، وقالت: ما رأيكم أن نصوت على الأمثلة التي نسمعها، برفع الأيدي، فوافق الحضور، كل بطريقته، عندها قالت من يوافق على إدراج هذه الحادثة ضمن أمثلتنا، فرفع غالبية الحضور أيديهم بالموافقة.

فوجدتها فرصة أخرى مناسبة لتتجه مرة أخرى إلى المتحدث، نظراً لظرفه الخاص، وتكرر الشكر له، قائلة له من باب المداعبة، لقد فزت بالجائزة الكبرى، في هذه المحاضرة، وهي ثقة الحاضرين بك، فأبدى سروره، وشكرها هي والحاضرين.

ثم أتاحت الفرصة لمتحدث آخر، فقال: وجدت قصة مماثلة لقصة سبق ذكرها، وهي أن صحابياً يدعى أبا ذر قدم على النبي r وهو في مكة، في بداية دعوته، وأعلن إسلامه، وعرض على النبي r أن يبقى معه، فنصحه النبي r بالعودة إلى بلده، لأنه لن يطيق الوضع في مكة، رحمة به وشفقة عليه(2).

أعتقد أن الدافع إلى هذه النصيحة من الرسول r هي رحمته به بخاصة أنني أحببت أن أعرف المزيد عن هذا الصحابي، فمر بي أن النبي r قال له في بعض المواطن، إنك امرؤ ضعيف(3) ، وهو ما يؤكد ما ذكرته.

اتجهت د. سارة إلى الحضور، تستطلع آراءهم، فأبدوا موافقتهم على إدراج هذا المثال ضمن الأمثلة التي تدل على رحمة النبي r بأصحابه.

سألت الحضور من لديه الرغبة في أن يزيدنا شيئاً، وهنا رفعت إحدى الحاضرات يدها، قائلة: أنا رجعت إلى تفسير الآية التي تتحدث عن قصر الصلاة، وبحثت عن اللفتة الجميلة التي تحدثت عنها، وأظنني وجدتها.

سرت الدكتورة سارة بهذا ، وقالت: تفضلى بذكرها. فقالت: قرأت في كتب التفسير النص التالي: أن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب t، إن الله يقول: (إن خفتم )، وقد أمن الناس؟ فقال له عمر عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله r فقال Sadصدقة تصدق بها عليكم، فاقبلوا صدقته)(1) ، بادرتها د. سارة قائلة: لقد أصبت وأحسنت، إن هذا ما أردت قوله.

ذلك أن التخفيف في بداية الأمر من عدد ركعات الصلاة، كان بسبب خوف المسلمين من أعدائهم في أثناء السفر، أو القتال.

كان يتوقع بعض الصحابة أن يلغى هذا الحكم بعد أن زال خطر أعدائهم، وأصبحوا آمنين.

لكن النبي r قال لهم حتى بعد الأمن، وزوال الخطر، فإن الحكم باق على حاله، صدقة من ربكم، وهدية لكم رحمة منه، وهو ما يؤكد أن الرحمة مقصودة لذاتها في التكاليف الشرعية.

أعزائي الحضور ..

التدرج في التشريع، من أبرز مظاهر الرحمة، التي استرعت انتباهي، في سيرة نبي الرحمة r، ولقد شد إعجابي كثيراً، فأنا لا أعلم له مثيلاً، واسمحوا لي أن أذكر لكم تعريفاً للتدرج، حتى تصبح دلالته حاضرة في الأذهان، فإن فعل درج في اللغة يعني البدء بالمشي قليلاً قليلاً، ولهذا يقولون درج الطفل، عندما يبدأ يتعلم المشي، ويخطو خطواته الأولى ببطء وحذر(1).

من هذه الدلالة، أخذ المعنى الذي نقصده، في محاضرتنا هذه، فنحن نعني به (التقدم بالمدعو شيئاً فشيئاً للبلوغ به إلى غاية ما طلب منه، وفق طرق مشروعة مخصوصة)(2) .

إن المتابع لتوجيهات نبي الرحمة r لأتباعه، يرى بكل وضوح منهج التدرج هذا، فلقد كان يأخذ بأيديهم، كما تأخذ الأم الحنون بيد ولدها، وهي تعلمه المشي في خطواته الأولى.

إذا كانت الرحمة هي التي دفعت الأم إلى التلطف مع ولدها، وهي تعلمه المشي خوفاً عليه، وترفقاً به، وهذا لا خلاف فيه بين الناس جميعاً، فاعلموا أن الرحمة نفسها هي التي حملت النبي r على أن يتدرج مع أصحابه في الأحكام.

ليس يخفى عليكم أن العادة عندما تتحكم في الإنسان، يكون من العسير عليه التخلص منها، أو حتى إدخال تعديلات عليها، ويبدو أن الأمر كما قال بعض من كتب في علم الأخلاق، بأن العادة تغرس جذورها عميقة في الجهاز العصبي(3). وهذا يعني أن التدرج في التشريع، هو تدرج في التربية الأخلاقية.

فقد جاء نبي الرحمة r بهذا الدين، وما تضمنه من تكاليف، وتوجيهات، والبشرية كلها أسيرة عادات، وضحية شهوات، شب على بعضها الصغير، وشاب عليها الكبير، فكان لابد والحالة هذه، من أخذ هذا الوضع بعين الاعتبار، حين العمل على تصحيح المسار، الذي كانت تسلكه البشرية التائهة بلا وعي.





(1) الرسول في عيون غربية منصفة، ص 88، الحسيني معدِّي.


(1) انظر الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ج1، ص 471، أبو البقاء الكفوي، تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة ، بيروت.


(2) انظر التحرير والتنوير، ج1، ص 441، ابن عاشور.


(1) أخرجه الحاكم في المستدرك، ج1، ص 91، وأخرجه الدارمي في السنن، ج1، ص21، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ج1، ص 411.


(2) رواه مسلم، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها، ح 6613.


(1) رواه البخاري، باب الصلاة كفارة، الحديث رقم 526


(2) انظر دستور الأخلاق في القرآن، ص 80 فما بعده، د. دراز.


(1) رواه البخاري، باب الصوم في السفر والإفطار، ح 1944.


(1) رواه البخاري، باب الصوم في السفر والإفطار، ح 1944.


(1) رواه ابن ماجه، باب من نذر أن يحج ماشياً، ح 2135، وهو حديث صحيح، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج2، ص 205.


(2) رواه مسلم، باب فضائل أبي ذر، ح 2473


(3) رواه مسلم، باب كراهية الإمارة بغير ضرورة، ح 1825


(1) رواه مسلم، باب صلاة المسافرين وقصرها، ح 686


(1) انظر المعجم الوسيط، ج1، ص 277، د. إبراهيم أنيس وآخرون بتصرف.


(2) التدرج في دعوة النبي r، ص 17، إبراهيم المطلق، ط1 1417، مركز البحوث والدراسات الإسلامية.


(3) دستور الأخلاق في القرآن، ص 83، د. دراز.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
السنهوري




عدد المساهمات : 2141
نقاط : 6186
النخبة : 0
تاريخ التسجيل : 15/06/2011

مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Empty
مُساهمةموضوع: رد: مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم   مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم Icon_minitimeالجمعة يناير 27, 2012 2:39 pm

لما كان يصعب علينا تتبع مظاهر التدرج في المنهج النبوي، لكثرتها وتنوعها، فإني استأذنكم في الاقتصار على قضية واحدة، وأحسبها دليلاً واضحاً، على ما ذهبنا إليه، تلكم هي قضية تحريم الخمر.

وأود أن أحتاط لنفسي، وأبين أن عرض هذه القضية، ليس غاية في ذاته، وإنما عرضت لها باعتبارها وسيلة لغاية، وأنموذج لمنهج، فليس من منهجي بحث مسائل كهذه، في محاضراتي الثقافية، بيد أن الحاجة تدعو للكشف عن منزلة الرحمة في هذه القضية، ودورها في معالجة كثير من مشاكل المجتمعات، بأسلوب غير معهود، يمكن أن تنتفع به البشرية في الحاضر كما انتفعت به في الماضي.

يغلب على ظني أن الخمر آفة كل عصر، منذ مئات السنين، وأخشى أن أقول بل آلاف السنين، فأطالب بالدليل، وهو ليس بين يدي الآن، لكن ما من شك، أن شرب الخمر عادة سيئة، بكل المقاييس، لم تكد تسلم منها المجتمعات منذ القدم (فقد تنوقلت على مدى الزمن، من جيل إلى جيل، وغرست جذورها عميقة في الجهاز العصبي، بل وفي كيان أولئك الذين مردوا عليها، وأدمنوها)(1).

ظهر نبي الرحمة r في بيئة تعظم الخمر وتفاخر بتعاطيه، ويمكن القول بأنه لم يكد يسلم أحد من رجالها من تعاطي الخمر، إلاَّ أشخاصاً معدودين على الأصابع، حفظ التاريخ لنا ذكرهم، بسبب مخالفتهم لقومهم، وخروجهم على المألوف في حياتهم، وأحفظ من هؤلاء أبو بكر الصديق t الخليفة الأول للنبي r فإنه لم يشرب الخمر في حياته، لا في جاهلية، ولا في إسلام.

ولا أدل على تمكن الخمر من النفوس، وتحكمها في مدمنيها، من قصة الشاعر الكبير الأعشى، فقد أعجب بدعوة نبي الرحمة r وقرر السفر إليه، وإعلان إسلامه، فخشيت قريش إن أسلم أن يمدح النبي r بقصيدة تجعل الناس يسارعون إلى الإيمان به، لشهرة هذا الشاعر.

فقرر أهل قريش، إغراءه حتى يعدل عن رأيه، فقابله أبو سفيان، زعيم قريش آنذاك، وقال له، أين أردت يا بابصير؟ قال أردت صاحبكم هذا لأُسلم، قال أبو سفيان، إنه يحرِّم عليك أموراً إن أسلمت، قال ما هي: قال: الزنا، قال: لا حاجة لي به، قال: ثم ماذا، قال: يحرِّم عليك القمار، قال: لعلي إن لقيته آخذ منه ما يعوضني عن القمار، قال: وينهى عن الربا، قال: ما دنت ولا أدنت، فلا يعنيني هذا الأمر. قال أبو سفيان، فإنه يحرِّم الخمر، وهنا توقف الأعشى، وقال: أوه أرجع إلى بلدي فأشربها بقية السنة ثم آتيه، فعاد إلى بلده، فمات في الطريق (1).

لا يتصور بحال أعزائي الحضور، أن الله تعالى الرحيم بخلقه، ينزل على نبي الرحمة r ديناً، لا تكون من أبرز غاياته، تحريم الخمر، ولكن ما السبيل إلى تحريمه، وتخليص المجتمع من أضراره، التي لا تعد ولا تحصى.

الرحمة تقتضي تحريمه، والرحمة نفسها تدعو إلى النظر في مكانة الخمر في نفوس الناس، فكان لابد من إتباع خطة محكمة في سبيل تحقيق هذا الهدف السامي، لا يكون من معالمها إصدار حكم فوري، وقطعي بتحريمها، إذ لو حصل هذا، لما أمكن حمل الناس على العمل به.

وهذا ما أدركته السيدة عائشة زوج النبي r حين قالت: (إنما نزل أول ما نزل منه ـ أي من القرآن ـ سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا لا ندع الخمر أبداً ..)(2).

يكشف لنا حديث السيدة عائشة، عن أمر ذي أهمية، ظاهرة يشهد له الواقع، وتؤيده الوقائع، وهو تأخر نزول القرآن الذي يتضمن الحديث عن التكاليف، والحلال والحرام، إلى أن تمكن الإيمان من النفوس، واطمأن الناس إلى هذا الدين، واستشعرت قلوبهم مدى رحمة النبي r بهم ، وشدة حرصه عليهم.

اسمحوا لي أن أعرض لكم معالم التدرج في تحريم الخمر، والخطوات التي مرَّ بها هذا التحريم، وأرجو منكم متابعتي، وتلمس مظاهر الرحمة في هذا العرض.

كثر الحديث في بداية نزول القرآن، عن الثواب والعقاب، فرغب في خمر الجنة، وحببه إلى النفوس، حين وصفه القرآن بأنه يخلو من السلبيات الموجودة في خمر الدنيا: ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ [الصافات:43-47]، فالخمر في الجنة لا تذهب بالعقول، ولا تفسد الأجسام، ولا تغتال صاحبها، وتقضي عليه(1)، فهي في الجنة شراب لذيذ:ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ [محمد: 15].

لعلكم تلاحظون معي أعزائي الحضور، أن الآيات مدحت خمر الجنة، لكنها لم تذم خمر الدنيا، ولعلها تركت المقارنة لأصحاب النبي r الذين يسمعون هذا الكلام.

خطا القرآن الكريم بعد هذا خطوة أخرى، ورأيت كثيراً من العلماء يعدونها الخطوة الأولى في رحلة التحريم.

يقول العلامة دراز (تمت الخطوة الأولى في هذه الطريق، في كلمة نزلت بمكة، كلمة واحدة مست المسألة مساً رقيقاً، فمن بين الخيرات التي استودعها الله في الطبيعة، يذكر القرآن " ثمرات النخيل والأعناب" ويضيف إليها: ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ [النحل : 67] ، فهو لم يقصد إلاَّ إلى الموازنة، بين السكر والثمرات الأخرى، التي يصفها بأنها حسنة، دون أن يصف هذا السكر نفسه، وبذلك صار لدى المؤمنين دافع إلى الإحساس ببعض التحرج والوسوسة تجاه هذا النوع من الشراب)(1).

وأنا بهذه المناسبة، اعتذر إليكم، بسبب بعض النصوص التي أوردها أحياناً، والتي يصعب استيعابها استيعاباً كاملاً في هذه العجالة، ولكني أعدكم بأن تكون بين يديكم، ليكون لكم معها وقفة أخرى.

ونحن بهذه المناسبة أيضاً، نستعمل هذا الأسلوب القرآني اللطيف، فعندما أقابل اثنين من طلابي في نهاية الفصل الجامعي، وكانا قد قدما الاختبار، ثم يسألاني عن النتيجة، فأقول للذي نجح في الاختبار أحسنت، لقد اجتزت الاختبار، ثم لا ألتفت إلى الثاني، ولا أقول له شيئاً أبداً، وأعتقد حينها أنه سوف يفهم هذه الرسالة اللطيفة، والتي فيها مظهر من مظاهر الرحمة، حيث لم أشأ أن أواجهه بالنتيجة المؤسفة.

إن القرآن في هذه الآية، وصف الرزق بأنه حسن، وسكت عن وصف الخمر بشيء، فاستقر في وجدان أتباع نبي الرحمة r أن الخمر ليس حسناً بحال، ولكن لا شيء آخر بعد هذا.

وتمضي سنوات معدودة، وإذا بالقرآن الكريم يوظف حادثة ذكرها أهل الحديث والتفسير(2)، مفادها أن الصحابي عبد الرحمن بن عوف t صنع طعاماً ودعا الناس إليه، وقدم إليهم خمراً فشربوا، ثم حانت الصلاة فقدموا أحدهم ليصلي بهم، فأخطأ في قراءة القرآن، بسبب شربه للخمر، فأنزل الله تعالى عندها: ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ [النساء: 43]. فالله تعالى لم يوجه في هذه المرحلة إلى عدم الشرب، وإنما نهى عن القرب من الصلاة حال الشرب.

جاءت هكذا الخطوة الثانية، لمحاصرة الخمر، وتضييق الوقت على من يرغب في تناولها، فإن الصلوات لم يعد يناسبها شرب الخمر، والصلوات تكاد تغطي اليوم والليلة، (وهكذا كان هذا التحريم الجزئي، غير المباشر منهجاً علمياً لتوسيع فترات انقطاع التأثير الكحولي، وفي نفس الوقت، تقليل رواج الأشربة، وتجريدها من سوقها بالتدرج، دون إحداث أزمة اقتصادية، بالتحريم الشامل المفاجئ)(1).

بدأت علاقة الصحابة بالخمر في الانحسار، بعد أن جعلها القرآن مضادة للصلاة، وبعد ما فرض عليها من حصار، مما جعل بعضهم يتساءل عن حكمها، فجاء الجواب من الله تعالى: ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ [البقرة : 219].

هذا النص القرآني صريح، في أن مضار الخمر أكثر من منافعه، واسمحوا لي أن أذكر لفتات جميلة في هذه الآية، فقد قدَّم الإثم على النفع، كأنه هو الأصل، ووصف الإثم بأنه كبير، ولم يصف المنافع بشيء ، وهذه نفحات من رحمات، لأنها تسهم في التنفير من الخمر.

يبدو لي أن الأمر بدأ يتضح وحده، وبدأ ينمو شعور لدى الصحابة، بالنفور من الخمر، ما دامت هذه حالها، وكانوا يتوقعون في أية لحظة حكماً صريحاً بتحريمها، بعد ما تقدم من إرهاصات، حتى وجد عمر بن الخطاب t الخليفة الثاني للنبي نفسه وهو يرفع صوته بالدعاء قائلاً: (اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً)(2).

لقد دلت بعض الروايات أن الصحابة بدأوا بالتخلص من الخمر قبل نزول تحريمها، حتى قال عبد الله بن عمر t (لقد حرّمت الخمر وما بالمدينة منها شيء)(3)، وهو قطعاً لا يقصد التعميم الكامل، ولكن يفهم منه أن الخمر لم يَعُد لها وجود، كما كانت من ذي قبل، كأنهم اجتنبوها قبل أن يُطلب منهم هذا .

بدأ الصحابة وكأنهم على موعد مع حكمٍ ما قادم إليهم، وقد تهيأت نفوسهم لقبوله، بل تتشوق إليه، وكأنها تطالب به، إنه التحريم، وقد كان فعلاً حين نزل قول الله تعالى: ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ [المائدة : 90].

لقد تم التحريم، وتم الاجتناب، بطريقة غاية في العجب، آية في دقة التنفيذ، وسرعة الاستجابة، واسمحوا لي أعزائي الحضور أن أستضيف الصحابي أنس بن مالك لينقل لنا الصورة كاملة ، لهذا الحدث العجيب المهيب.

قال كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح، وأبا طلحة الأنصاري، وأُبيَّ بن كعب شراباً من فضيح وتمر، قال: فجاءهم آت ، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس ، قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال: فقمت إلى مهراس ـ يعني حجراً ـ لنا فضربتها بأسفله حتى كسرت )(1). وفي رواية، فأمر رسول الله r منادياً: ألا إن الخمر قد حُرمت، فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة(2).

أمامي تعليق جميل للدكتور العلامة دراز ، اسمحوا لي أن أسمعكم إياه، يقول: (هذا المسلك اليسير المتدرج، يدعونا إلى أن نتذكر الطريقة التي يستخدمها الأطباء المهرة، لعلاج مرض مزمن، بل أن نتذكر بصفة عامة، المنهج الذي تلجأ إليه الأمهات لفطام أولادهن الرضع.

ذلك أن هذه الوسائل، التي خلت من العنف، والمفاجأة، تدعو الجهاز الهضمي إلى أن يغير نظامه شيئاً فشيئاً، ابتداءً من أخف الأطعمة، حتى أعسرها، ماراً بجميع الدرجات الوسيطة، ألا ما أعظم رحمة الله، التي ترفقت بالعباد، على نحو لم يبلغه فن العلاج، ولا حنان الأمهات (1). ما أجمل هذا القول، وما أصدقه.

أعزائي الحضور ..

كنت سأنهي حديثي عن الخمر بهذا الكلام، بيد أني آثرت أن أعرض لكم بإيجاز صورة مقابلة، لما سبق بيانه، إنه القانون الأمريكي لتحريم الخمر، لنرى كيف بدأ، وكيف انتهى؟

فقد صدر سنة 1933، قانون تحريم الخمور في أمريكا، وألحق بالدستور المادة الثامنة عشرة الإصلاحية، التي تتضمن هذا التحريم، والإجراءات التي ينبغي اتخاذها لتنفيذه، وما أن صدر القانون حتى نشطت تجارة الخمور السرية.

صارت تباع أنواع من الخمر مضرة بالحياة، وانتشرت الأماكن السرية، التي تصنعها، وتبيعها، وازدادت مراكز البيع غير القانوني، فقبل قانون التحريم، كان عدد مصانع الخمور قرابة أربعمائة مصنع، وبعد سبعة أعوام من تحريمه، صار عدد هذه المصانع قرابة ثمانين ألف مصنع.

وانتشر شرب الخمر بين جميع فئات الشعب، وشمل جميع مناطق البلاد، بما فيها القرى، والأرياف، وتصاعدت أرقام الجرائم، والحانات.

وفقاً لإحصاءات ديوان القضاء الأمريكي، فقد تم تنفيذ حكم الإعدام في قرابة مئتي شخص، وزادت الجرائم بين الأطفال، حتى أعلن قضاة أمريكا: أنه لم يكن من المعهود سابقاً أن يقبض على هذا العدد من الأطفال في حالة السكر.

لقد دلت تقارير الشرطة، أن عدد المدمنين من الأطفال، ارتفع إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل التحريم، وتضاعف عدد الوفيات.

على أثر هذا الفشل، ونتيجة لهذه الخسائر في الأرواح، والأموال، تراجعت الدولة عن القانون، وسمحت بإنتاج الخمور، التي تقل نسبة الكحول فيها عن 33%، ثم صدر في السنة نفسها، إعلان رسمي، ألغيت بموجبه المادة الثامنة عشرة، التي تحرم الخمر، وعاد الخمر كما كان، بعد تجربة فاشلة، خاضتها الحكومة الأمريكية، بكل إمكاناتها، مدة أربعة عشر عاماً (1).

وقد علق أحد العلماء الأمريكان على هذا بقوله: (إن قرار منع الخمر لم يُلغ على أساس أن الخمر جيدة، أو سيئة ضارة أو غير ضارة، إن القرار أُلغي على أساس واقعي هو أن المنع قد فشل)(2).

ربما توسعت في الحديث عن موضوع الخمر، ولكني تعمدت هذا، رغبةً مني في الكشف أولاً عن مظاهر الرحمة التي أدت إلى القضاء عليه في المجتمع الإسلامي، في مقابل مظاهر القوة التي فشلت في منعه.

وإذا كانت الرحمة قد ظهرت جليَّاً في التدرج في تحريم الخمر، فإن الرحمة نفسها كانت أظهر في التحريم نفسه، فقد اطلعت على موقع طبي يتحدث عن الأضرار التي تحدثها الخمر بالجسم، فرأيت شيئاً مرعباً، أود أن أذكر لكم بعض هذه الأضرار باختصار:

(1) إتلاف خلايا المخ.

(2) إتلاف الكبد.

(3) هبوط عملية التنفس.

(4) انخفاض المناعة في الجسم.

(5) تؤدي إلى هشاشة العظام.

(6) الإصابة بقرحة المعدة والسرطان.

وغير هذا من الأمراض الصحية التي لا يتسع المقام لسردها ، إضافة إلى الأضرار الاجتماعية والاقتصادية التي لا تخفى عليكم، فكان هكذا التحريم رحمة بالناس.

إن البشرية المعاصرة بحاجة ماسة إلى سيف الرحمة ـ المصاحب للتدرج ـ ، الذي شهره النبي محمد r في وجه الخمر حتى قضى عليها بكل لطف ومحبة.

أعزائي الحضور ..

أختم بالقول بأن التدرج بالتشريعات والأحكام ، كان سمةً بارزةً من سمات هذا الدين، الذي بعث به النبي محمد r، فهو لم يقتصر على الخمر فقط، فقد كان التدرج في أحكام أخرى مثل الصيام، والزكاة، وبعض المعاملات ومنها الربا، كما يرى بعض من قرأت لهم من العلماء.

فالصيام في أول الأمر كان اختيارياً، ثم لما تعود الناس عليه، صار ملزماً لهم، وأصبح الصيام فرضاً في قول الله تعالى: ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ[البقرة : 185].

والزكاة كذلك كانت في العهد المكي، مطلقة من القيود، وكانت موكولة إلى إيمان الناس وشعورهم، بواجب الأخوة نحو إخوانهم المؤمنين، فكان يكفي في ذلك إخراج القليل من المال، وقد تدعو الحاجة إلى بذل الكثير(1)، ثم في السنة الثانية من الهجرة، صارت الزكاة فرضاً وركناً من أركان الإسلام، بحدودها وشروطها، وأنصبتها، ومستحقيها.

وهكذا تبدو الرحمة مصاحبة لهذه الأحكام، والتشريعات، وكانت حاضرة في كل خطوة خطاها النبي محمد r وهو يأخذ بيد البشرية للبلوغ بها إلى السمو الأخلاقي.

ليس يخفى عليكم ذلك التلازم والتكامل بين رحمة الله تعالى، حين شرع هذه الأحكام الرحيمة، وبين رحمة النبي r الذي تلقاها، ليعمل على تنفيذها بكل لطف ورحمة.

أعزائي الحضور ..

قبل أن أختم محاضرتي، أعتذر إليكم، لأني أطلت عليكم قليلاً، لكني رغبت أن أستكمل هذا الموضوع المترابط، أكرر شكري، وإلى لقاء آخر.

******







(1) دستور الأخلاق في القرآن، ص 83، د. دراز.


(1) انظر البداية والنهاية، ج4، ص 250، ابن كثير، تحقيق د. عبد الله التركي، ط1، 1997م، دار هجر، الرياض.


(2) رواه البخاري، باب تأليف القرآن، ح 4993


(1) محاسن التأويل، ج8، ص89 بتصرف، جمال الدين القاسمي، 2003م، دار الحديث، القاهرة، تحقيق أحمد بن علي وحمدي صُبح.


(1) دستور الأخلاق، ص 83، مرجع سابق.


(2) الترمذي ـ كتاب التفسير ـ حديث رقم 3026، التحرير والتنوير، ج5، ص 60، ابن عاشور.


(1) دستور الأخلاق، ص 84، 85، د. دراز.


(2) انظر التحرير والتنوير، ج7، ص 21، مرجع سابق.


(3) رواه البخاري، باب الخمر من العنب وغيره، ح 5579


(1) رواه مالك في الموطأ، باب تحريم الخمر، ح 1599، ص 517


(2) انظر البخاري، كتاب المظالم، باب صب الخمر في الطريق، ج 2464


(1) دستور الأخلاق في القرآن، ص 85، د. دراز.


(1) انظر الخمر في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، ص 172، د. فكري عكار، ط1، 1977م.


(2) المرجع السابق، ص 175


(1) فقه الزكاة، ج1، ص 77 بتصرف، د. يوسف القرضاوي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
مظاهر الرحمة للبشرفي شخصية النبي صلى الله عليه و سلم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم
» صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم
» فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم يوم الجمعة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديــــــــــــــــــات العدالــــــــــــــــــــــــــة و القانـــــــــــــــــــــــــــون :: صوتيات و مرئيات :: السيرة النبوية الشريفة-
انتقل الى: