السنهوري
عدد المساهمات : 2141 نقاط : 6186 النخبة : 0 تاريخ التسجيل : 15/06/2011
| |
السنهوري
عدد المساهمات : 2141 نقاط : 6186 النخبة : 0 تاريخ التسجيل : 15/06/2011
| موضوع: رد: محاضرة العدل الواجب و الرحمة الواجبة الجمعة يناير 27, 2012 2:49 pm | |
| غيرها من الواجبات، وهذا وجه مشرق ولا ريب، هنا رفع أحد الحضور يده قائلاً : إن بعض الأفراد قد يرون فيه وجهاً آخر سلبياً، من حيث إن هذا المنهج قد يشجِّع على التجاوزات، ويُرغِّب في المخالفات، فما رأي المحاضرة الكريمة بهذا الكلام ؟شكرت الدكتورة سارة صاحب المداخلة وأجابته بقولها: هذا طرح جميل، وتدعو الحاجة إلى التعرض إليه بالتحليل، ويحسن بنا أن نذكر بدايةً، أن النبي r ذم الغلو، من حيث هو، أينما وجد، وعلى أية هيئة كان، وقد قالها صراحة: إياكم والغلو(1)، وهو تجاوز الحد، المفضي إلى الفساد، لأن الفضيلة وسط بين رذيلتين.فالغلو في الرحمة، من حيث الإفراط في استحضارها والحث على الأخذ بها، دونما اعتبار لما يلحق بها من ملابسات، لا تقل مفسدته عن التفريط فيها، حين تدعو الحاجة إلى تقديمها لتؤدي الغرض المنوط بها.أنجز النبي الرحيم r ـ بهذا المنهج الذي يتضح من أقواله وأفعاله ـ ما عجز عنه من سبقه من العظماء، فهم بين قائد اشتهر بحروبه، وتميز بقوته، كالإسكندر، وهولاكو، ولم تكن للفضائل في سيرتهم مكانة تذكر وبين داعية إلى الفضائل والرحمة والتسامح وحسب.لا يفلح أي من المسلكين في البقاء، ولا يحمل في مضامينه عوامل الإغراء به دوماً. فجاء النبي r بالمنهج المتوازن، الذي جمع بين القوة والرحمة، ومزج بينهما بطريقة غاية في الروعة، ولهذا تم له ما أراد، ورأينا القوة وهي تحمي الرحمة، كما رأينا الرحمة وهي تهذب القوة، وتحاصر فيها مظاهر الشر.لقد وضع النبي r الرحمة في نصابها الحق، وأعملها في المواطن التي تدعو إلى استحضارها، لهذا أدت أحسن النتائج، دونما إهمال، أو إغفال، للحزم والمحاسبة والقوة، ولا أحسب أنه مرَّ بنا حادثة قدَّم فيها النبي r الرحمة، وأعملنا فيها النظر إلا خرجنا بهذا الانطباع.بين أيدينا حوادث تشهد لما تقدم لم تقوَ الرحمة على أن تكون صاحبة الكلمة الفصل فيها، لاعتبارات سوف تبدو لنا، فهذا أحد اللصوص يسرق في عهد النبي r فلما رفع أمره إلى النبي r أمر بقطع يده، ثم رأى الصحابة أثر الألم، والتأثر على وجهه r فقال بعضهم، هلاَّ عفوت عنه يا رسول الله، فقال: كان هذا قبل أن يرفع الأمر إليَّ، أما وقد رفع فلا (1).وحدث أن سرقت امرأة من أشراف الناس، فرفع أمرها إلى النبي r، فتكلم الناس في شأنها، عسى أن يعفو عنها النبي r، فقالوا من يجترئ عليه إلاَّ أسامة بن زيد حبيبه؟فكلمه أسامة، فقال له رسول الله r: أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فخطب، وجاء في خطبته، قوله: إنما أهلك الذين قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها(2).حادثتان تؤكدان بجلاء، أنه إذا استهدفت القيم والثوابت، تعذر إعمال الرحمة في هذه المواطن، فالحادثة الأولى تمنى فيها النبي r أن لا يرفع إليه أمر السارق، أما وقد رفع فلا يجوز للحاكم أن يعطل تنفيذ الأحكام حتى لا تكون حجة لمن بعده من الحكام.أما الثانية، فإن المرأة التي سرقت من أشراف القوم، وعليتهم، فكانت الرحمة بها تحمل في طياتها إضاعة العدل بين الناس، واستحضار الطبقية والتمايز، وهو ما لا يرضى به النبي r بحال، ولهذه الاعتبارات نفذ الأحكام، وتناسى بكل أسى الرحمة في هذين الموطنين.ولا يفوتني أن أذكر لكم، أن هذه المرأة صار لها حظوة في بيوت النبي r فقد كانت تتردد على بيت عائشة زوج النبي r وتعرض عائشة حاجاتها على النبي r الذي كان يسارع إلى الاستجابة لها، تقديراً لظروفها ورعاية لحالها، من أجل رد الاعتبار لها رحمةً بها، فليس في الإسلام ما يسمى بأصحاب السوابق، بخلاف القانون الوضعي، الذي يلاحق الجاني، حتى بعد معاقبته، وصلاح حاله.حرص النبي r على هيبة الإسلام، أمام خصومه، حتى لا يطمع منهم طامع، أو يتجرأ أحد على النبي r وأتباعه حين يأمن هذا الخصم العقوبة، ويعتمد على العفو، وقد قيل قديماً من أمن العقوبة أساء الأدب.يستدعي هذا غض الطرف عن الرحمة في موطن كهذا، وقد كان فقد أسر المسلمون رجلاً يدعى أبا عزة الجمحي، وكان شاعراً يحارب النبي r بلسانه وسيفه في معركة بدر، فتوسل إلى النبي r أن يطلق سراحه، ووعده أن لا يعود لقتاله أبداً، فرحم النبي r حاله، وأطلق سراحه، دون أن يأخذ منه فداءً، على عكس ما فعل مع غيره.حدث بعد سنتين، أن وقع الرجل نفسه أسيراً في غزوة حمراء الأسد ، التي أعقبت غزوة أحد، فعاد يتوسل إلى النبي r ويرجوه أن يطلق سراحه مرة ثانية، فأبى النبي r وقال له: (والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها، وتقول خدعت محمداً مرتين، وقال له: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ثم أمر بقتله(1)).هذا التصرف من النبي r يصب في مصلحة الرحمة، ويعزز من مكانتها في النفوس، لأنه يعطي درساً واضحاً للناس، لكي لا يغتر أحد فيتمادى في الشر معتمداً على أن الرحمة ستحول بينه وبين أي عقاب محتمل، فإذا كان هذا الرجل قد دفع حياته بسبب سوء تقديره، وقبح تدبيره، فإنه فيما وقع منه وفيما حدث له رحمة لغيره، وفي الحادثة رحمة بالرحمة نفسها، حتى لا تفرغ من مضمونها ويبطل مفعولها.ولا أخفي عليكم، أن هذا الحدث لم يكن الوحيد، فقد تبعته بعض أحداث مماثلة، تكررت فيها الدوافع والملابسات، حتى تعذر على بعض الناس التوفيق بينها وبين صور الرحمة، ومظاهرها في حياة النبي r.أعجبني في هذا المقام، تحليل للأستاذ العقاد، جاء فيه (من خصائص العظمة النبوية في محمد r أنه وصف بالنقيضين على ألسنة المتعصبين من أعداء دينه، فهو عند أناس منهم، صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال، وهو عند أناس آخرين، صاحب قسوة، تغريه بالقتل وإهدار الدماء البشرية من غير جريرة، وتنزه محمد r عن هذا وذاك.فإذا كانت شجاعته عليه السلام تنفي الشبهة في رقة الضعف، والخوف المعيب، فحياته كلها من طفولته الباكرة تنفي الشبهة في القسوة والجفاء، إذ كان في كل صلة من صلاته بأهله، أو بمرضعاته، أو بصحبه، أو بزوجاته، مثلاً للرحمة التي عز نظيرها في الأنبياء(((1.يدفعنا هذا الكلام، للحديث عن مسألة منهجية، تتصل بدراسة بعض المفكرين غير المسلمين، لسيرة النبي محمد r، فإن من يقرأ كتاباتهم، بهذا الشأن، يشعر أن عدداً منهم يسلط الضوء على جانب واحد من سيرة النبي r، ربما عن قصد أو غير قصد، ليقدمه للناس بهذا الوجه فقط.يعد هذا المسلك أياً كان الدافع إليه جناية على الحقيقة، وعدم احترام لعقل القارئ. إنه يذكرني بكتاب أ. شيللر المتلاعبون بالعقول.إن من يقلِّب صفحات سيرة النبي محمد r، باحثاً عن أدلة تؤكد رحمته، وعفوه، وتسامحه، سوف يجد هذه الصفحات طافحة بها، ومن يبحث عن أدلة تتضمن أن النبيr كان قوياً وحازماً وقتل أشخاصاً، ولم يستجب لتوسلاتهم، سوف يجدها أيضاً.لكن لن يجد أي من الفريقين، وسيلة يمكن من خلالها إخفاء وجه، في هذه السيرة لحساب وجه آخر، وربما لن يجد بعضهم الأهلية العلمية، أو المنهجية، الحيادية، لدفع تعارض متوهم بين هذه المواقف، وهذا الذي دفع الأستاذ العقاد إلى القول بأن العظمة تبدو في عيون الأعداء تناقضاً.اسمحوا لي أعزائي الحضور .. أن أستطرد قليلاً للحديث عن مسألة ذات صلة بما نحن بصدده، تلكم هي النظرة إلى نبي الرحمة r من قبل بعض المجتمعات غير الإسلامية، حين يصور على أنه قاس، ويقيد الحريات، ويعاقب على الأخطاء، بخلاف المسيح.لقد قرأت في هذا الموضوع، تحليلاً جديراً بالذكر هنا أقتطف منه الأسطر التالية (عندما سيطر الفكر النفعي على الشخصية الغربية، أصبح التعلق بشخص المسيح، يمثل قمة النفعية، لمن اختاروا التدين، فهو قد قام بدفع فاتورة خطاياهم، حتى قبل أن يقعوا فيها، وأبقى لهم الحياة لكي يمارسوا فيها ما شاءوا من أفعال، ما دام أن محبة المسيح ـ كفرد وكإله عندهم ـ تسيطر على مشاعرهم.أما من تركوا الدين المسيحي بأكمله، وأصبحوا لا دينيين، أو ملحدين ـ فقد كان المسيح بعد تحريف الدين أيضاً مركزياً في مواقفهم الفكرية، فهو فرد ، وبالتالي لا يمكن أن يختلف عن غيره من البشر.ثم إن المسيح بصورته التي قامت الكنيسة الغربية بتصويرها، رحيم منعزل عن حياة الناس، يقبل بكل معايير الحياة الإنسانية ـ كما يريدها الناس أنفسهم ـ ولا يدعو إلاَّ إلى الحرية والمساواة، وهي أهم قيم العلمانية، ولا تصادم من تركوا الدين، وبالتالي فلا حاجة إلى مصادمة المسيح)(1).إذا كان المسيح بهذه المواصفات، فإن النبي محمداً r على نقيضه، هكذا يصوره خصومه، ليصرفوا الناس عن محبته، ومتابعته، ومما يؤسف له، أن هذه الأوهام، قد تسللت إلى عقول الكثيرين في المجتمعات الغربية بخاصة، بعد ضعف الرغبة في التدين لديهم.من كانت هذه حالهم، يحبون من يتركهم يعملون ما يحبون، دون رقيب، أو حسيب، وهو المسيح برأيهم، وينفرون ممن يطلب منهم التزامات، وتكاليف، ويحاسبهم عليها، وهو النبي محمد r برأيهم.يؤسفني أن نسمع هذا الطرح الساذج، والذي لا يليق أن يلقى على أسماع أناس يحترمون عقولهم، إنه كلام يسيء أول ما يسيء إلى السيد المسيح، حين يقدم للناس على هذه الهيئة، التي تفقده صفة النبوة، وصفة المصلح، وصفة المربي الغيور ، وتجعل منه مجرد جسر للشهوات، وحامل للخطايا.اسمحوا لي أن أُذكِّر بمثال، هو أقل من مستواكم، فأرجو المعذرة مسبقاً. لو كان عندنا طبيبان في الحي، أحدهما يحاسب مرضاه، ويراقب أوضاعهم، ويصارحهم بمرضهم، ويصف لهم العلاج المر أحياناً، ويمنع عنهم أشياء محببة إليهم، ويتدخل في بعض خصوصياتهم.وطبيب آخر ـ إن وجد فعلاً ـ يجاري مرضاه، فيما يرغبون، لا يمنع عنهم شيئاً، ولا يعتب عليهم حين يرى منهم خطأً يلحق الضرر بهم، ولا يكشف لهم عن وضعهم الصحي، ولا يحذرهم إن دعت الحالة تحذيراً.أيهما أشد حرصاً على مرضاه ؟، وأيهما الذي أدى الأمانة؟، وأيهما يحوز على احترام الناس، ولو بعد حين؟، وأيهما يكون رحيماً بمن حوله ؟إن الإجابة عن هذه الأسئلة التي لا أعتقد أنه يختلف بشأنها اثنان، كفيلة أن تكشف سذاجة تلك التصورات، التي يسعى بعض المتلاعبين بالعقول، إلى الترويج لها.أما أنا ـ تقول الدكتورة سارة ـ فأرى أن المنصفين، ولا أقول الأصدقاء فقط، ينظرون إلى ما سمي تناقضاً، على أنه توازن، ووسطية، وتكامل. إن هذه المواقف التي سجلها لنا التاريخ من سيرة النبي محمد r صارت نظرية أخلاقية، تجاوزت الزمان والمكان والبيئة، وحفظ التاريخ لها مكانتها.لكم مني أعزائي الحضور كل الشكر والتقدير على حسن الاستماع، وإلى اللقاء في محاضرة قادمة.
(1) رواه ابن ماجه، كتاب المناسك، ح 3029، وهو حديث صحيح، انظر صحيح ابن ماجة، ج3/ ص 49، الألباني.(1) رواه بهذا المعنى الإمام مالك في الموطأ، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان، ح 1579.(2) صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي r، باب: ذكر أسامة بن زيد، ح 3733.(1) عبقرية محمد، ص 77، محمود عباس العقاد.(1) أوروبا والإسلام، ص 62 – 63 بتصرف، هشام جعيط. | |
|